عام الرقابة: كيف أربكت فلسطين المشهد الفني العالمي؟

22 ديسمبر 2024
على واجهة متحف رينا صوفيا في مدريد، يناير 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في عام 2024، تصاعدت الرقابة والضغوط السياسية على الفنانين والمؤسسات الفنية عالمياً، خاصة في الولايات المتحدة وألمانيا وكندا، مما أدى إلى إلغاء معارض بسبب محتوى مثير للجدل.
- أظهر الفنانون شجاعة برفضهم المساومة على مبادئهم، حيث انسحبوا من معارض في سان فرانسيسكو ولندن وواشنطن احتجاجاً على التمويل السياسي المتعارض مع رسالتهم.
- لجأ الفنانون إلى وسائل التواصل الاجتماعي والمعارض غير التقليدية للتعبير عن رؤاهم، مؤكدين على أهمية حرية الفن كجزء من الكفاح من أجل حرية التعبير وحقوق الإنسان.

مع انقضاء عام 2024، تبرز الأحداث التي شهدتها الساحة الفنّية العالمية كمرآة لما يعصف بالعالم من صراعات سياسية وقضايا حقوقية. أصبح التضامن مع الفلسطينيين محوراً للجدل في العديد من المؤسسات الفنية حول العالم، حيث تصاعدت الضغوط والرقابة إلى مستويات غير مسبوقة. وبين قمع الفنانين وإلغاء معارضهم وبين المقاومة الشجاعة لبعضهم، بقي الفن شاهداً على الكفاح من أجل الحرية.

الرقابة على الأعمال

لم يعد الفن بمنأى عن السياسة، هذا ما أثبتته الحوادث المتتالية التي طاولت الفنانين والمؤسسات الفنية خلال العام. في الولايات المتحدة، قررت Oolite Arts، وهي مؤسسة فنية في ميامي بيتش، إزالة عمل للفنان الفيتنامي فو هو آنغ نغوين، الذي يعكس عبر الصور والكتابات فكرة "من النهر إلى البحر". المؤسسة بررت قرارها بضغوط من أطراف مجتمعية ترى في العبارة دعوةً للعنف، رغم أن العمل كان يتناول قضايا أخرى تتعلق بالهجرة وتغير المناخ.
الأمر لم يقتصر على الولايات المتحدة. ففي ألمانيا، ألغى متحف Folkwang قسماً من معرض "نحن هو المستقبل" بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي لمشاركين فيها داعمة لفلسطين. استشهد المتحف بقانون ألماني صدر عام 2019 يدين حركة المقاطعة (BDS) ويعتبرها معاديةً للسامية، في مثال واضح على تأثير القرارات السياسية على الحريات الفنية.
تبرز هنا إشكالية في غاية الأهمية، وتتمثل في اعتماد المؤسسات الفنية في العديد من الدول الغربية على مصادر تمويل متشابكة تشمل الدعم الحكومي والتبرعات الخاصة. هذا الاعتماد يجعل المؤسسات عرضةً للضغوط السياسية والمالية، ما يدفعها لاتخاذ قرارات قد تكون على حساب قيمها المعلنة.
في كندا، طلبت مؤسسة Art Canada Institute مراجعة الأعمال المشاركة في معرض Lands Within، الذي ضم أعمالاً لفنانين من أصول عربية وإسلامية. جاءت هذه المراجعة في اللحظات الأخيرة بدعوى ضرورة مراعاة "حساسية الجمهور"، ما دفع الفنانين إلى الانسحاب الجماعي من المعرض بعد ساعات من افتتاحه، تعبيراً عن رفضهم الرقابة المبطنة. وفي كاليفورنيا، انسحب سبعة فنانين من معرض الفنون بمعهد كاليفورنيا بعد أن طُلب من إحدى الفنانات حذف الإشارة إلى "الإبادة الجماعية في فلسطين" من بيانها الفني. رفض الفنانون الامتثال لهذا الطلب، مؤكدين أن التضامن مع فلسطين جزء من رسالتهم الفنية.
ورغم الضغوط، أظهر العديد من الفنانين شجاعةً استثنائية برفضهم المساومة على مبادئهم. في سان فرانسيسكو، انسحبت مجموعة من الفنانين اليهود من معرض في متحف California Jewish Museum، مطالبين بشفافية مصادر تمويل المتحف وتخليه عن أي دعم من مؤسسات إسرائيلية أو صهيونية. وفي لندن، انسحب فنانان ومقتنون من معرض في مركز باربيكان بعد إلغاء محاضرة للكاتب بانكاج ميشرا حول استغلال الهولوكوست لتبرير الهجمات على غزة. هذا النوع من الاحتجاجات ليس جديداً، لكنه شهد تصاعداً ملحوظاً في عام 2024. الفنانون أصبحوا يدركون أن مشاركتهم في معارض تخضع لرقابة سياسية تمثل تنازلاً عن رسالتهم الإنسانية، ما دفعهم إلى اتخاذ مواقف جريئة قد تكلفهم مسيرتهم الفنية.
هذه الحوادث وغيرها تؤكد الدور الإنساني الذي يضطلع به الفنانون كصوت للشعوب المقهورة، فالفن لا يقتصر على الجماليات؛ بل هو وسيلةٌ للتعبير عن المعاناة والأمل. في واشنطن العاصمة طلب الفنانان نيكولاس غالانين وميريت جونسون إزالة أعمالهما من معرض National Gallery of Art، احتجاجاً على الدعم المالي الأميركي لإسرائيل. أوضح غالانين أن عمله الفني يمثل انعكاساً للبقاء والمقاومة، وأنه لا يمكن فصل الفن عن القضايا الكبرى التي تؤثر على الشعوب. وكتب الفنانان على موقع التواصل الاجتماعي إنستغرام: "من المؤسف للغاية أننا يجب أن نطلب إزالة أعمالنا من المعرض الوطني بسبب تمويل الحكومة الأميركية للهجوم العسكري الإسرائيلي والإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، إننا ندعو الحكومة الفيدرالية إلى المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار، وقطع المساعدات العسكرية لإسرائيل، ورفع الحصار عن غزة".
يبدو الأمر هنا كأنه صراع على القيم بين الفنانين والمؤسسات الفنية، إذ تعكس الصدامات بين الفنانين وهذه المؤسسات تعقيد العلاقة بين الإبداع الحر ومتطلبات الدعم المالي. العديد من المؤسسات تعتمد على تمويل من جهات قد تكون لديها أجندات سياسية، ما يجعلها تتجنب الأعمال التي تُثير الجدل. هذا التوجه يضع المؤسسات في مواجهة مع القيم التي تدعي دعمها، ويضع الفنانين أمام خيارات صعبة: إما التنازل عن مواقفهم، وإما التضحية بفرص العرض والانتشار.

منصات جديدة للمقاومة الفنية

في مواجهة الرقابة والقمع، بدأ الفنانون في البحث عن منصات بديلة للتعبير عن رؤاهم. وتأتي هنا وسائل التواصل الاجتماعي كمساحةٍ حيوية لمشاركة الأعمال الفنية التي تواجه الحظر، ما يعكس تطوراً في أساليب المقاومة. بالإضافة إلى ذلك، نظّمت مجموعات فنية مستقلة معارض في أماكن غير تقليدية، مثل المستودعات والأماكن العامة، لتوفير فضاء للفنانين المقموعين.
ومع تصاعد الرقابة والقمع، أصبح واضحاً أن حرية الفن ليست رفاهيةً أو مجرد قضية فنية، بل هي جزء من الكفاح الأوسع من أجل حرية التعبير وحقوق الإنسان. الفنانون الذين رفضوا التنازل عن مبادئهم قدموا نموذجاً ملهماً للالتزام بالقيم الأخلاقية، حتى في وجه الضغوط الهائلة.

المساهمون