أخرج طارق بنبراهيم فيلمين وثائقيين طويلين، "سيمون شاهين: موسيقى، فكر وفلسفة" (2018)، و"أسرايفي في مياه فِكيك" (2021)، تجمعهما رؤية مواضيع بحمولة حميمة، تناولها من منظور إنساني، ومجاز مُرسَل يتطرّق إلى إشكالية عامّة من خلال حالة خاصة، بالإضافة إلى اهتمامٍ كبير بشريط الصوت.
فيلمه الثاني يتابع العربي أولعابد، الذي يشتغل كأسرايفي، أي مُتصرّف في مياه نبع "تزادرت"، في المنطقة الصحراوية "فِكيك" (شرق المغرب، قرب الحدود مع الجزائر)، وتفاصيل عمله على تخزينها وتقنين توزيعها بين فلاحي الواحة، وفق تقنيات قياس موروثة عن أسلافه، الذين بنوا شبكة مُعقّدة تعبر الواحة، وتخترق أرضها.
تكمن قوّة الفيلم في التقاطه تلقائية أسرايفي ودقّة حركاته، وشرحه المفصّل لطبيعة مهمّته، وقدرته على التبئير على خيط الماء الرفيع، وضبط الإيقاع على تدفّقه في أوصال الواحة، من دون السقوط في الديداكتيكية، أو فخّ جمالية البطاقات البريدية، رغم الطبيعة الساحرة لفِكيك، ليقول أشياء أساسية عن هشاشة تناغم الإنسان وتعايشه مع الطبيعة القاسية، والقيمة الأساسية التي يجسّدها الماء في هذا التناغم.
في "سيمون شاهين..."، يبرز بنبراهيم أصالة الموسيقى العربية الكلاسيكية وغناها، من خلال قصة سيمون شاهين، الموسيقي الفلسطيني المقيم في الولايات المتحدة الأميركية، ودوره الكبير في وضع أسس دراسة أكاديمية للموسيقى العربية، تمزج بين مراعاة القواعد ودراستها، كما في الموسيقى الغربية، والحفاظ على خصوصيات الموسيقى العربية، بالاحتكاك مع أهمّ عازفيها الوافدين إلى الولايات المتحدة من الوطن العربي، بفضل تأسيسه "منتجع الموسيقى العربي".
يتمثّل تفرّد الفيلم في إيقاعه الانسيابي، المرتكز على الموسيقى أساساً، عبر مشاهد التمارين الموسيقية في فصول الدراسة وحصص التسجيل، تتخلّلها حوارات مع موسيقيين من أعمار وأجناس وأصول وتخصّصات مختلفة، تعكس تنوّع الموسيقى العربية وغناها، مُعيدة الاعتبار إلى الشخصية الفلسطينية المُبدعة، في مشهدٍ رائع (يقتفي امتحاناً يُجرى عن بعد لحصول الموسيقيين الشباب على منحة دراسية في "جامعة بيركلي")، انتقل فريق التصوير إلى فلسطين لالتقاطه من وجهة نظر المُمتَحَنين، بمونتاج خلّاق موزون على العزف الموسيقي دائماً، وحركة بالغة التأثير، يتحدّى فيها الإبداع قيود الاحتلال ومنطقه المُكبِّل للطاقات.
عن فيلميه هذين، حاورت "العربي الجديد" طارق بنبراهيم في الدار البيضاء.
(*) أول ما يثير الاهتمام في فيلمك الثاني شخصية أسرايفي المهدي أولعبد، والطريقة التي يتحرّك بها، وحركاته، ودقّة تفسيراته. في البداية، يقوم بخطوة أساسية في فيلمٍ وثائقي، حين يموقعنا في الفضاء بتلقائية مطلقة. إلى أيّ حدّ كان مهمّاً العثور على شخصية كهذه؟
بشكل عام، عندما تبحث عن شخصية وثائقية، عليك أنْ تجد شخصاً يقوم بعمله جيداً. يجب أنْ تكون حركاته دقيقة ومثالية. حركات العربي أولعابد تعود إلى ما بين 700 وألف عامٍ. شخصٌ مثله، يعيش في بلدته منذ عقود، ويعرفها جيداً، ويعرف كلّ ما يجري فيها، يقول إنّ هناك، بالتأكيد، أصالة معيّنة. لا يحتاج إلى بذل جهد ليبدو هكذا. المفتاح بالنسبة إليّ ألّا أقوم بشيءٍ يعيق تلك الطبيعة. إنّه درس حقيقي في التواضع. كلّ ما كان عليّ فعله أنْ أتابعه لعامين. كان عليّ القيام برحلات تدوم 14 ساعة إلى "فِكيك" لتصويرٍ يستغرق 3 أيام، ثم العودة بعدها بصفة منتظمة إلى حدٍّ ما. نقبع هناك، مُنتظرين الفرص المؤاتية للتصوير، كصيّاد يترقّب. استغرق الأمر عاماً من المونتاج للعثور على اللحظات المناسبة وجمعها معاً. من أجل هذا، كان علينا العثور على شخصٍ ممتاز في دور أسرايفي، وهذا تطلّب وقتاً طويلاً.
(*) يحاكي إيقاع الفيلم توالي الفصول نوعاً ما. لكنّي أجد أنّه، أساساً وبشكل أكثر فنّيةً، يتبع تدفق المياه في الواحات. هذا يعني أننا نبدأ باكتشاف المكان الذي تنبجس منه مياه نبع "تزادرت"، ويخبرنا أسرايفي أنّ الأمر يستغرق وقتاً مُعيّناً للانتقال إلى نقطة محدّدة. ثم، في منتصف الفيلم، ننزل للقاء الماء في القنوات تحت الأرض، وفقط مع اقتراب النهاية نرى المياه تصل إلى الحقول.
مع فاطمة (فاطمة بنبراهيم، زوجة المخرج ـ المحرّر) التي قامت بالمونتاج، وتكفّلت أيضاً بمهمّة الإنتاج معي، فهمنا سريعاً أنّ الماء سيكون الشخصية الثانية. في الواقع، اخترنا سرد قصة الرجل من خلال الماء، الذي (الماء) كان دليلنا الذي لا يُخطئ طريقه. كلّ ما كان علينا فعله أنْ نتّبعه، رفقة أسرايفي. مكّننا هذا القرار، فوراً، من مقاربة مناسبة لعملنا.
بعد ذلك، كان علينا إعادة هيكلة كلّ شيء في العلاقة بالماء. لم تكن مصلحتنا أنْ نبالغ في توضيح الأشياء، فنسقط في المنهج التعليمي الذي يشرح كيفية سير الأمور أكثر من اللازم. رغم أنّ الجانب الديداكتيكي ضروريّ في بحثنا، إذْ اطّلعنا على نحو 10 أطروحات دكتوراه عن فِكيك، أُنجزت في المغرب وباريس والولايات المتحدة. في لحظة معينة، قلنا لأنفسنا: كلّ هذا جيد للباحثين والمكتبات. لكنْ، للتأثير في المتفرّجين ضروريٌّ أنْ نُحقّق فيلماً جذّاباً يتتبّعونه، وربما يحبّونه في النهاية. سنقوم بجولة في المدينة، سيراً على الأقدام، وإذا شاهد عالم أنثروبولوجيا جولتنا، ربما يقوم بقراءة ثانية. وإذا شاهده سينفيليّ، سينجز قراءة ثالثة مخالفة.
علينا العودة إلى أساسيات السينما، التي تتمثّل في سرد قصة.
(*) المونتاج طبعاً بالغ الأهمية، خاصة بالنسبة إلى الأفلام الوثائقية. حصلتَ على كمية كبيرة من المادة الفيلمية في نهاية التصوير. ما نوع المعايير التي استعملتها لتحديد الاختيار بين ما يتبقّى وما يزول في التوليف؟
في البداية، بدأنا بفريق تصوير كبير. ذهبنا إلى "فِكيك" للتصوير، مع السيناريو وكل ما نحتاج إليه. بعد يومين فقط، اتّضح أنّه يجب التخلّص من النصّ، وتقليص حجم الفريق، لسببين: البحث عن خفّة حركة أكبر في المدينة، وخاصة من أجل العلاقة مع الشخصية الرئيسية. ما كنتُ أبحث عنه، في مرحلة معيّنة، إخفاء المخرج، وحتى الكاميرا، والتصرّف كما لو لم يكن هناك شيء.
في النهاية، عندما عدنا إلى "القناة الثانية"، كانت هناك مواد فيلمية كثيرة. رضا بنجلون (المشرف على مديرية البرامج الإخبارية والوثائقية في "القناة المغربية الثانية" ـ المحرّر) أفادنا كثيراً. حين شاهد النسخة الأولى، التي تدوم 150 دقيقة، أخبرنا أنّها تحتاج إلى مزيدٍ من التوليف. كان علينا العودة إلى طاولة المونتاج، والعثور مُجدّداً على القصة، للتركيز أكثر عليها.
لكي تعمل أيّ قصة بشكل جيد، ضروري اللجوء إلى تقنيات الرواية. إحدى القواعد الأولى العثور على الأسطورة التي يجب حَكيها، وهنا، صدفة، وجدنا أسطورة سيزيف، أو الشخص الذي يُكرّر الحركات نفسها كلّ يوم، وإلى الأبد. هدّأ ذلك قليلاً من روعنا، لأننا لم نكن نعرف كيف نتصرّف مع كلّ تلك المواد في وقت معيّن.
(*) كيف تم تلقّي الفيلم عندما عرضته "القناة الثانية"؟
اخترنا 21 مارس، لتزامنه تقريباً مع اليوم العالمي للمياه. توافق العرض أيضاً مع التوترات الحدودية حول أراضي منطقة "العرجا" مع الجزائر. استقطب الفيلم 3 ملايين مُشاهد، وهذه أعلى نسبة مُشاهدة لفيلمٍ وثائقي على "القناة الثانية"، بعد "الحال"، عن ظاهرة "ناس لغيوان".
(*) بالنسبة إليّ، المشهد المفتاح عندما نتوغّل، رفقة أسرايفي، في القنوات الوعرة تحت الأرض، في رحلة يمكن تشبيهها بسفر عبر الزمن، في ثقب دودي، لأنّنا نكتشف كيف حفر أسلافنا في "فِكيك" هذه الممرات، وعزّزوا صلابتها، بشكل عبقري، بوسائل بسيطة متاحة لهم. كيف استعددتم لتصوير هذا المشهد المعقّد؟
كلّ رحلة، بطريقة ما، رحلة عبر التاريخ. عندما تتبع المياه، أو تمشي في أزقّة "فِكيك"، تسافر عبر التاريخ. عند نزولنا إلى قنوات "تزادرت"، كنّا بصدد لغزٍ حقيقي. كان علينا أنْ نكون مستعدين بالكاميرات المقاومة للماء، والإضاءة المؤاتية، والمعدّات المناسبة لالتقاط الصوت، وأنْ نتبع أسرايفي. لمّا نزلتُ إلى 20 متراً تقريباً، لم أستطع الإكمال، لأنّي مُصاب برهاب الأماكن المغلقة، فأخذت فاطمة الكاميرا وأكملت المهمّة. كان الأمر مثيراً، لأنّ أسرايفي أخبرنا مُسبقاً عن جذور النخيل التي تعيق مجرى المياه. عندما رأينا حجم المشكلة، لم نصدّق. كانت تلك أيضاً بمثابة رحلة داخلية، نتوغّل عبرها في الظلام، ونخرج منها أحياء، لنخصّب أشجار النخيل في المشهد الموالي.
(*) من خصائص أسلوبك، الأهمية الفائقة المُعطاة لشريط الصوت: مونتاج الصوت، والمؤثّرات الصوتية، والموسيقى. إلى ذلك، اشتغلت مع أشخاص معروفين دولياً في هذا المجال.
أحببتُ الصوت في السينما، دائماً. مثلاً، صوّرتُ فيلمي القصير "المآل" (2006) صامتاً، ثمّ سجّلت الأصوات كلّها، ومزامنتها. مع "أسرايفي..."، عرفتُ أصوات "فِكيك" منذ طفولتي. كنتُ محظوظاً، لأنّي، عند إنجازي "المآل" في نيويورك، اشتغل معي فرانك مورّوني كمازج أصوات، لكنّه لم يكن معروفاً حينها. بعد اشتغاله على أعمال كثيرة معروفة، كمسلسل "عقول إجرامية"، أصبح يتمتّع بصيت كبير. عندما انتهيت من "أسرايفي..."، اتصلت به في فترة كورونا، لأستفسر عمّا إذا كان أحد مساعديه متاحاً ليقوم بمزج الصوت لي، فأجاب: "أنتَ محظوظ، بما أنْ ليس لديّ شيء أفعله، سأقوم بذلك بنفسي". جودة عمله تتماشى جيداً مع الفيلم.
فيما يتعلّق بالموسيقى، فكّرت: بدلاً من استخدام الموسيقى المحلية، كإيقاع العلوي والغلّار وكلّ ذلك ـ التي تضفي مناخاً معيناً إلى درجة أننا بمجرّد سماعها، تُحيلنا إلى طابع إثنوغرافي ـ لماذا لا أبحث عن موسيقى مؤلَّفة للفيلم. اشتغلتُ مع الملحّن السويدي جون سكوغ، فكتبتُ له لحن الفيلم، وقام بتوزيع الموسيقى على المَشاهد. موسيقى نهاية الفيلم لسيمون شاهين، وعمر فاروق على الناي. منحنا شاهين موسيقاه. بعد مُشاهدته الفيلم، قال لي إنّه واجه أشدّ منافسة ممكنة، "لأنّ صوت الماء أجمل الأصوات إطلاقاً".