صور اللبنانيين والسوريين... هي هجرة أخرى

28 سبتمبر 2024
على الحدود اللبنانية السورية، 24 سبتمبر 2024 (لؤي بشارة/ فرانس برس)
+ الخط -

انتشرت صور كثيرة للعائلات السوريّة المهجّرة من جنوب لبنان إثر قصف الاحتلال الإسرائيلي. نراهم على الطرقات نائمين أو يتأملون بنظرات فارغة، في انتظار انفراجة ما؛ إذ رفضت بعض مراكز الإيواء استقبالهم، بحجة أنها للبنانيين فقط.
الصور المنتشرة من منطقة المصنع، تكشف مقدار الهلع والمأساة: سوريون ولبنانيون يحاولون العبور إلى الأمان، ذاك الأمان الذي يشمل اللبنانيين فقط، فسورية ليست آمنة للسوريين. المطلوبون والمنشقون وجدوا أنفسهم أمام خيارين، إما الموت تحت القصف الإسرائيليّ أو المخاطرة بالعودة إلى "حضن الوطن"، حيث لا يملكون شيئاً.
هُجّر السوريون مرة ثانية، الأولى كانت على يد النظام السوري وحلفائه، وهذه المرة هُجّروا بالعكس، أي نحو بلادهم التي لم يعودوا يملكون فيها شيئاً، بل وعليهم صرف 100 دولار كي يدخلوا إلى "وطنهم".
حمل المهجّرون السوريون كاللبنانيين ما وقعت عليه أيديهم، ليقفوا مرة أخرى على ذات الحدود التي خرج كثير من السوريين منها طامحين إلى البقاء على قيد الحياة لا أكثر، ليجدوا أنفسهم الآن مرة أخرى أمام نقطة المصنع الحدوديّة، في انتظار المجهول.
صور النزوح الجماعي تعيد إلى الذاكرة ما حصل عام 2011، حين فرّ السوريون من الحرب، والآن عاد بعضهم، إلى جانب لبنانيين قاد بعضهم سياراتهم تحت القصف، لتصل إلى منطقة المصنع بزجاج مهشم، وهي علامة على النجاة من موت محتم.
هذا التهجير الثاني (على الأقل) للسوريين، ولبعض اللبنانيين من أهل الجنوب، ربما الثالث: في الثمانينيات، وفي حرب 2006، والآن، وكأنهم على استعداد للرحيل، لا أرض ثابتة تحتهم. الاثنان هجرتهم ماكينات القتل.
تبدو النقاط الحدودية في هذه اللحظات مبتذلة، لا قيمة لها أمام ماكينة الموت الإسرائيليّة، لكنها تحافظ على وظيفتها البيروقراطيّة، إذ تفصل بين الناجين والهاربين وطبقاتهم، ولكل فئة معاملة منفصلة، ما يمثّل إمعاناً في الإذلال لتأكيد سطوة النظام السوري، الذي سمى المهجّرين السوريين الذين يحصون احتمالات الموت على يد إسرائيل بـ"المقيمين في لبنان". سخرية مزدوجة من التهجير ومن شبه استحالة استخراج السوري لإقامة في لبنان.
حشود تعيش على الأمل بالحياة، تهرب من تقصير الحكومة اللبنانية العاجزة عن توفير ملاجئ لمواطنيها نحو سورية، حيث النظام السوري يهدّد العائدين من مواطنيه. نحن أمام سيناريو سوريالي "تخرجه" ماكينة قتل إسرائيليّة، ترتكب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وتسعى إلى تهجير أهل جنوب لبنان لـ"حماية حدودها". لكن، أي تقف هذه الحدود؟ كم كيلومتراً من القتل والتهجير حول إسرائيل يكفي كي تشعر بـ"الأمان"؟
السؤال الساخر السابق ما من إجابة له سوى بنبرة ساخرة، نقتبس من باسم يوسف الذي يرى أن الحد هو "كلّ العالم"، وهنا بالضبط يظهر دور الصمت الدوليّ، المستعد للاستمرار بتمويل وتسليح ماكينة القتل، خوفاً من ذنب قديم، لكن أولئك المهجرين، سوريين ولبنانيين وفلسطينيين، لا يحركون ضمير العالم.
تتكرّر صور التهجير في المنطقة، وكأنها ليست أرضاً ثابتة، الحياة عليها كاللعب على رقعة غير متوازنة، مهددة دوماً بالسقوط. ديكتاتوريات واحتلالات تتعامل مع كتل بشرية لا أفراد. تحرّكها بسطوة الصواريخ والبراميل، تنقل من مكان إلى آخر محملة بالحقد وأمل بالعيش.

لا يمكن تجاهل المفارقة التراجيدية التي تتمثل بأن يُهجّر سوريون من مكان لجوئهم، إلى "وطنهم" الذي يهدّد حياتهم. مفارقة كهذه تترك المرء عاجزاً عن الوصف، أي أرض هي الأكثر اختزالاً لاحتمالات الموت، خصوصاً أن لا مفر الآن سوى البحر، ذاك الذي ابتلع آلاف الهاربين، سوريين ولبنانيين، حتى السماء نفسها، محاصرة بالمسيّرات والطائرات الحربية والصواريخ، لا مفرّ إذاً سوى الرحيل، التنقّل بوصفه أسلوباً للنجاة وتفادي احتمالات الموت في أرض مهددة دوماً بأن تنفجر في أي لحظة.

المساهمون