بملامح حازمة تارةً ومنبسطة تارةً أخرى يقف العم عبد اللطيف داخل محله العتيق الذي ورثه عن أبيه وجدّه منذ ما يزيد عن أربعين عاماً، ليعلم تلميذته سمية أصول صنع آلة العود التونسية، مكذباً بذلك أن صاحب حرفتك عدوك، ويقول إن أشد ما يقلقه اندثار هذه الحرفة التي باتت حكراً على القليلين من أبناء جيله.
منذ ساعات الصباح الأولى يفتح عبد اللطيف محله المتواضع في العاصمة تونس، ليبدو وسط آلاته وأدوات صنع العود، كأنه ملك على عرش الأوتار النادرة والألحان الفريدة، معبراً عن سعادته بصنعه لأوتار تعزف عليها أقدم أنواع المعزوفات وأجودها خاصة أنها تميز بلاده دون غيرها.
إلى ذلك، يقول العم عبد اللطيف لـ"العربي الجديد"، إن الحفاظ على هذه الحرفة بات مهمة صعبة، وهو يحرص أيّما حرص على إحيائها مجدداً بشتى الطرق حتى أنه يصادق الشباب والأطفال، ويحدثهم عن أهمية الحفاظ على الموروث الموسيقي، على غرار الطفل ياسين ابن الحارة المجاورة والذي لم يتجاوز عمره الست سنوات.
ويضيف: "يأتي هذا الصغير إلى المحل حاملاً قيثارته الزرقاء الصغيرة التي أتلفت أوتارها، ويطلب مني إصلاحها وهو أمر يطمئنني ولو قليلاً على مستقبل هذه الحرفة".
طرق الصناعة
على صوت مقطوعات من الفن التونسي التقليدي على إحدى آلات العود التي صنعت في المحل، يشرع العم عبد اللطيف في تركيب قطع آلة العود التونسية حسب الصنف ونوع الخشب الذي يختاره مسبقاً، والذي يطوعه بواسطة النار ليأخذ شكل القالب المخصص له، ثمّ يحضر ما يسمى بواجهة العود التي تحتوي على ثلاثة ثقوب، وهو ما يميز العود التونسي عن العود الشرقي، إضافة إلى عدد أوتاره.
عند الانتهاء من تركيب الأجزاء الأساسية لآلة العود يفكر الرجل في طريقة الصقل والتزويق، التي يقول إنها ذات خاصية تونسية بحتة، فالعود الذي يصنعه من مواد طبيعية خالصة يقول إنّه يفضل تزيين اليد بعظام البقر وأصداف البحر وتصنع الأوتار من أمعاء بعض الحيوانات.
يعد التلوين آخر مراحل صناعة آلة العود، ويختلف باختلاف الآلات فهو يتراوح بين البني الداكن والبني الفاتح، وأحيانا يأخذ لوناً أصفر حسب رغبة الحريف، وعندما يجف يتم تنظيفه ووضعه على رفوف المحل لعرضه للبيع.
أمل وألم
لا يحبذ العم عبد اللطيف كلمة اندثار المهنة أو الحرفة، فهو يمتلك من الأمل الكثير في الجيل الجديد لإعادة إحيائها وأخذ المشعل عنه رغم الصعوبات الكثيرة التي يواجهها صناع العود التونسي، حسب قوله. ويسعد كثيراً عندما يستمع إلى عزف تونسي متقن على آلاته التي تعب في صنعها ودقق في جميع تفاصيلها، وخير من يعزف عليها بالنسبة له الشاب زياد المولع بالمقطوعات التونسية الأصيلة، والذي يأتي خصيصاً لمحل العم عبد اللطيف لصقل موهبته على آلاته وتبادل الخبرات الموسيقية معه، خاصةً أنّه من القلائل الذين يحرصون على التواصل مع الأجيال الجديدة في ما يخص مهنهم.
ورغم أمله الكبير في حفاظ الجيل القادم على مهنة صناعة الآلات الوترية التونسية، إلّا أن عبد اللطيف مستاء من إقحام الآلات الحديثة في الموروث الموسيقي التونسي على غرار المدرسة الرشيدية، معبراً عن ألمه ممّا وصفها بمحاولة تشويه التراث.