يعيش الصحافيون السودانيون ظروفاً صعبة، نتيجة تدني قيمة رواتبهم الشهرية، وسط أزمة معيشية تشهدها البلاد، ما يلقي بظلاله على أدائهم اليومي. الأسبوع الماضي، اجتمع الصحافيون في "الانتباهة"، وهي واحدة من الصحف السودانية الأكبر والأكثر توزيعاً، لمناقشة أوضاعهم المعيشية وقيمة رواتبهم، مقارنة بما يبذلونه من جهد يومي في العمل على النسختين الورقية والإلكترونية. في نهاية الاجتماع، قرر صحافيو "الانتباهة" الإضراب عن العمل، للضغط على إدارة الصحيفة، من أجل زيادة رواتبهم. علقوا الإضراب بعد ساعات قليلة فقط، بعدما وعدت الإدارة بتنفيذ طلباتهم. لكنها في اليوم التالي، فصلت ثلاث من الصحافيات اللواتي نظمن الإضراب عن العمل، ما أثار غضب زملائهن ونقابة الصحافيين السودانيين حديثة النشأة والتكوين.
أصدرت النقابة بياناً تضامنياً، أكدت فيه أن قضية الأجور "عادلة وملحة، ولا تقبل التباطؤ أو التأجيل"، وأن أجور الصحافيين والصحافيات، في المؤسسات الإعلامية كلها، "صارت غير مناسبة، في ظل انهيار الأوضاع الاقتصادية في البلاد، ولا توازي الجهد الذي يبذله الصحافيون والصحافيات، لتقديم خدمة متميزة لجمهور القراء، ورقياً وإلكترونياً". وشددت على دعمها ومساندتها لأي خطوة يتخذها الزملاء والزميلات في أي مؤسسة صحافية لتحسين أوضاعهم، ورفضت ما أسمته "نهج إسكات الصحافيين عن المطالبة بحقوقهم، عن طريق إشهار سيف الفصل والتشريد في وجوههم".
رئيسة القسم الثقافي في صحيفة الانتباهة هادية قاسم واحدة من الصحافيات الثلاث اللواتي فصلن عن العمل. قالت قاسم، لـ"العربي الجديد"، إن الصحافيين لم يجدوا طريقاً غير الإضراب لتحسين ظروف عملهم، "نتيجة لظلم الإدارة"، مشيرة إلى أن الأخيرة تتحايل عبر منحهم راتباً شهرياً أساسياً لا يتجاوز 12 ألف جنيه (أقل من 24 دولاراً) ومعه حوافز، ليصل إجمالي ما تحصل عليه هي مثلاً إلى نحو 67 ألف جنيه (نحو 115 دولاراً)، وهو مبلغ ضئيل وسط الظروف الاقتصادية الصعبة في البلاد، ولا يكفي للتنقل من المنزل إلى مقر العمل. وأضافت قاسم أن الصحيفة رهنت تحسين الأجور بتخفيض عدد الصحافيين، وهذا "غير منطقي، لأن عدد الصحافيين لا يتجاوز الستة عشر"، معتبرة أن "استشهاد الناشرين بغلاء تكلفة صناعة الصحافة لا يعطيهم حق ظلم الصحافيين، لأن الصحف لديها مصادر دخل متعددة وتحصل على إعلانات بمليارات الجنيهات، لكنها تضع وضع الصحافي وظروفه المعيشية وحقوقه في آخر أولوياتها".
الصحافي مصعب الهادي قال إن "الظلم لا يقع على صحافيي الانتباهة وحدهم، فكل الصحافيين السودانيين يواجهون ظروفاً صعبة ومزرية، جراء الغلاء المعيشي وارتفاع تكلفة الحياة"، وأرجع استمرار هذا الوضع إلى "سياسات الناشرين والمؤسسات التي تبني نفسها من أكتاف الصحافيين وتُقيم الصحافي مالياً بصفر كبير، إذ لا تجد محرراً يتجاوز راتبه 5 آلاف جنيه (نحو 10 دولارات)". وأضاف الهادي، لـ"العربي الجديد"، أن هذه الأوضاع دفعت الكثير من الصحافيين للتخلي عن المهنة، أو العمل في مهن أخرى، بالتزامن مع عملهم الصحافي، مبيناً أنه شخصياً عمل عامل بناء في إحدى الفترات، لأن الراتب لا يكفيه حتى منتصف الشهر. ورأى أن الراتب "العادل" لأي صحافي في الوقت الراهن يجب ألا يقل عن 200 ألف جنيه. ووفقاً له، فإن ما يلاقيه الصحافيون السودانيون يحتاج حلولاً تشمل حملة تفعيل وتطبيق كل القوانين ذات الصلة بحقوقهم وتحسين بيئة عملهم، ومساعدتهم على التغلب على الأخطار. وشدد على ضرورة توحد الصحافيين السودانيين وراء مطالبهم، "من دون أي تخاذل، أو القناعة بأنصاف الحلول".
أما الصحافية إشراقة الحلو التي قضت 17 عاماً في المهنة فقررت تركها، بعدما وجدت نفسها تعمل في صحيفة السوداني الدولية براتب قيمته 10 آلاف جنيه، لم يعد يكفيها للمواصلات والاتصالات الهاتفية. لزمت المنزل فترة وعملت في صناعة الفطائر وبيعها، لكنها توقفت بعد فترة قصيرة، بسبب الحاجة إلى رأسمال أكبر من ما تملكه. في حديث الحلو لـ"العربي الجديد"، أصرت على ضرورة تحديد حد أدنى لأجور الصحافيين، على أن يكون تنفيذ ذلك تحت رقابة قوية من الجهات المعنية، لأنه سبق وأن حدد مجلس الصحافة والمطبوعات حداً أدنى ولم ينفذ.
ورمضان محجوب الذي وصل لمنصب المحرر العام لصحيفة الصيحة في يوم من الأيام ترك المهنة أيضاً، لصالح متجر صغير في مدينة الصفوة في أم درمان. وقال محجوب، لـ"العربي الجديد"، إنه أدرك مبكراً أن الصحافة الورقية في طريقها للتلاشي وسط التطور التقني وزحف الإعلام الجديد، وأن المستثمرين في الصحافة الورقية لن يكونوا قادرين على الإيفاء برواتب العاملين المجزية. وأشار إلى أنه صعب عليه الاعتماد على راتب الصحف، لأن آخر عرض قدم إليه كان راتباً شهرياً قيمته 70 ألف جنيه، وهو مبلغ لا يكفي لمصروف ابنه الذي يرتاد الجامعة، فقرر من دون تردد فتح المتجر، لتوفير الاحتياجات الأساسية. أقر محجوب بأن المتجر وفر له الحد الأدنى من الأمان المالي، لكن ذلك لم يمنعه من محاولة إشباع رغبته في العمل الصحافي، فعاد لكتابة مقالات صحافية عن بُعد تنشر في عدد من المواقع الإلكترونية، مؤكداً أن "الحنين يراوده للعودة لدنيا الصحافة"، لأن المهنة هذه تمثل "حباً لا يموت". محجوب يرى أن هناك واجباً على الحكومة للتدخل، لحفظ ماء وجه الصحافة الورقية، عبر دعم مدخلات الإنتاج، والإعفاء من كل الرسوم والضرائب، كما اقترح تقليل نسب القبول لكليات الإعلام في الجامعات السودانية لضيق مساحات التوظيف.
أما نزار يعقوب الحضري، وهو صحافي يحمل درجة الدكتوراه في الإعلام، وآخر وظيفة له كانت في فضائية الشروق التي أغلقت قبل ثلاث سنوات، فأوضح أنه، وعلى عكس الآخرين، لم يترك القطاع بسبب الظروف المالية، بل بسبب "التعقيدات" في العمل الإعلامي في الفترة الأخيرة. وأفاد لـ"العربي الجديد" بأنه يعمل حالياً في تجارة الخضار والفاكهة التي حققت له في البداية أرباحاً، لكنه تعرض لخسارات متتالية في الفترة الأخيرة. وأكد أنه مستعد للعودة للعمل الصحافي مهما كان العائد المادي، لأنه "يتنفس تلك المهنة، ولن يستطيع العيش بعيداً عنها".
إلى ذلك، كشف سكرتير الشؤون الاجتماعية في نقابة الصحافيين السودانيين، وليد النور زكريا، عن جهود تبذلها النقابة للتدخل في حل قضية الأجور التي توليها اهتماماً زائداً وشكلت لها لجنة خاصة برئاسة النقيب عبد المنعم أبو إدريس. تسعى اللجنة لمعالجة جذرية من زوايا الحكومة والناشرين والنقابة، لأن الناشرين أنفسهم يقولون إنهم يواجَهون بضرائب عالية على شركاتهم، ونسب خصم كبيرة من الإعلانات، وضعف في نسب التوزيع. وقال لـ"العربي الجديد" إن الناشرين طلبوا من النقابة أن تكون جزءاً من أدوات الضغط على الحكومة، من أجل تقليل الضرائب والخصم على الإعلانات، حتى تتمكن الشركات الإعلامية من تحويل هذه المستحقات لصالح الصحافيين وزيادة أجورهم. وأضاف أن النقابة تسعى من جانب آخر لتكوين جمعيات تعاونية، لتخفيف الأعباء عن الصحافيين، وتقديم دعم مباشر للمتقاعدين أو العاطلين عن العمل، كما تسعى لإشراك الصحافيين في خدمات التأمين الصحي، محذراً من أن الأوضاع الحالية سيئة جداً، ولو استمرت أكثر من دون حلول، فإن "الصحافة الورقية ستكون إلى زوال في أقرب وقت".