صحافيات أفغانستان: الموت حولنا والنجاة ذنب

17 اغسطس 2021
أسّست زهره جويا في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي منصة "رخشانه ميديا" (فيسبوك)
+ الخط -

في التسعينيات، تنكرت زهره جويا بزيّ صبي، وأطلقت على نفسها اسم محمد، لكي تتمكن من ارتياد المدرسة في العاصمة الأفغانية كابول، حيث كانت كل أشكال تعليم الإناث ممنوعة خلال الفترة التي حكمت فيها حركة "طالبان" البلاد.

جويا الآن في الـ28 من العمر، وأسست في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي منصة "رخشانه ميديا"، التي أسمتها تيمناً بفتاة رجمتها "طالبان" حتى الموت عام 2015. يضم فريق "رخشانه ميديا" خمس صحافيات ومتطوعات يعملن حول البلاد، لتغطية قضايا زواج الأطفال وتنظيم النسل والتحرش الجنسي والنجاة من الاغتصاب والتمييز الجندري والعنف الأسري، وكل ما يخص المرأة الأفغانية.

لكن جويا حالياً وسط دائرة من الرعب، وقد تضطر مجدداً إلى إخفاء هويتها، أو حتى التخلي تماماً عن مهنتها، بعد دخول "طالبان" إلى كابول يوم الأحد.

دخلت حركة "طالبان" إلى العاصمة الأفغانية كابول الأحد، وغادر الرئيس الأفغاني أشرف غني البلاد. سيطر مقاتلو الحركة في اليوم نفسه على مدينة جلال أباد شرقي أفغانستان، من دون أن يواجهوا أي مقاومة، بعد ساعات من استيلائهم على مزار شريف، رابع أكبر مدينة أفغانية وكبرى مدن شماليّ البلاد. وتمكنت "طالبان"، التي بدأت هجومها في مايو/أيار الماضي مع بدء الانسحاب النهائي للقوات الأميركية والأجنبية، من السيطرة خلال عشرة أيام فقط على غالبية البلاد.

لم تخف الحركة إطلاقاً رغبتها في إرساء نظام إسلامي جديد، شبيه بذلك الذي فرضته إبّان حكمها البلاد بين 1996 و2001، وسط مخاوف بين الناشطين الحقوقيين والصحافيين والعاملين في المجال الإعلامي، والنساء منهم تحديداً، من عمليات انتقامية تشنها الحركة عليهم، بعدما تصاعدت الاعتداءات وعمليات الاغتيال بحقهم خلال الأشهر الماضية.

عندما حكمت "طالبان"، فرضت رؤيتها المتطرفة للشريعة الإسلامية، فمنعت النساء من العمل ومن الخروج بدون محرم. ومنعت تعليم البنات. ومن بين آثار هذه السياسات أن النساء الأفغانيات أصبحن يعانين من أدنى متوسط عمر متوقع عند الولادة وأدنى معدلات معرفة القراءة والكتابة وأعلى معدل لوفيات الأطفال في آسيا، وزيادة كبيرة في التسول والدعارة عمّا كان عليه قبل صعود "طالبان"، وفق تقرير لـ"منظمة الأمم المتحدة للأطفال" (يونيسف) عام 1999.

في حديث لـ"العربي الجديد"، وقبل ساعات من وصول مقاتلي "طالبان" إلى ضواحي كابول، قالت زهره جويا إن صحافيات ومراسلات "رخشانه ميديا" يواجهن ظروفاً شديدة الصعوبة، ويعملن بحرص شديد، بعدما تلقت بعضهن تهديدات. ولم تستطع "العربي الجديد" الحصول على تفاصيل أكثر عن ظروف العمل الحالية لـ"رخشانه ميديا"، حرصاً على سلامة العاملات فيها.

في الوقت نفسه، تواجه "رخشانه ميديا" أزمة مالية دفعتها إلى إطلاق حملة تبرعات عبر شبكة الإنترنت، وجمعت إلى الآن أكثر من 90 ألف دولار أميركي. وهي تتعاون حالياً مع صحيفة "ذا غارديان" البريطانية لنقل قصص النساء الأفغانيات.

الصحافية زهره جويا: لن نترك أفغانستان، فنحن نحب بلادنا، لكننا يا للأسف خائفات. الكل هنا خائف الآن

جويا تصر على البقاء في بلدها، وهي تعلم حجم المخاطر المحيطة بها وبزميلاتها، علماً أن أنباء وردت خلال الأيام الأخيرة عن منع نساء من دخول الجامعات أو ممارسة وظائفهن في عدد من المدن الأفغانية، حيث فرضت "طالبان" سيطرتها. وأفادت وكالات إخبارية بأن مقاتلي الحركة أجبروا موظفات في أحد مصارف قندهار على ترك عملهن والعودة إلى منازلهن واستبدالهن بأقرباء من الذكور. الأمر نفسه حصل في مصرف في هرات. وانتشرت صورة على نطاق واسع على مواقع التواصل الاجتماعي منذ الأحد، تظهر رجلاً يضع طلاءً على صور النساء المعلقة على الجدران قبل دخول "طالبان" إلى كابول.

وأكدت جويا لـ"العربي الجديد": "لن نترك أفغانستان، فنحن نحب بلادنا، لكننا يا للأسف خائفات. الكل هنا خائف الآن".

وفقاً لـ"الفيديرالية العالمية للصحافيين"، تخلت أكثر من 300 صحافية أفغانية عن وظيفتها، خلال الأشهر القليلة الماضية، بسبب المخاوف الأمنية. تقرير آخر لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، استند إلى استطلاع آراء شمل 46 صحافياً بين نوفمبر/تشرين الثاني ومارس/آذار الماضيين، أكدّ أن "طالبان" تهدد الصحافيين، وتحديداً النساء، عبر الهواتف المحمولة والرسائل ومنصات التواصل الاجتماعي.

ومنذ إطلاق "رخشانه ميديا" العام الماضي، ازدادت أعمال العنف والهجمات المتطرفة في أفغانستان، حيث قُتل ما يقرب من 3 آلاف مدني في الصراع عام 2020، وفقاً لـ"اللجنة الأفغانية المستقلة لحقوق الإنسان". ورافقت ذلك سلسلة من عمليات القتل التي استهدفت الصحافيين والعاملين في الحكومة والمسؤولين الحكوميين، والتي ألقت الحكومة الأفغانية باللوم فيها على حركة "طالبان". وجاء في تقرير للأمم المتحدة، صدر في فبراير/شباط الماضي، أن "أفغانستان واحدة من أخطر البلدان في العالم على الصحافيين".

ويوم الأحد، نقلت الباحثة في "لجنة حماية الصحافيين" في آسيا سونالي داوان عن مراسلين، عبر حسابها على "تويتر"، أن مقاتلي "طالبان" يدورون على البيوت في قندهار بحثاً عن صحافيين عملوا مع مؤسسات إعلامية أجنبية. وحذرت داوان من أنّ بعض الصحافيين المُهدّدين لا يزالون في مطلع العشرينيات من عمرهم، ولا علاقات تربطهم بالحكومات الغربية أو المؤسسات الإعلامية الأجنبية، وأنهم يستحقون الاحترام والعناية والاهتمام من المجتمع الدولي. وقالت إنّ "طالبان" هاجمت منزلي صحافيتين على الأقل في كابول، وإحداهن استطاعت الهروب، بينما لا يمكن الوصول إلى الثانية.

ويوم أمس الاثنين، وجّه ناشر "واشنطن بوست" الأميركية ومديرها التنفيذي فرِد راين رسالة إلى مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض جيك سوليفان، نيابة عن صحيفته وصحيفتي "نيويورك تايمز" و"وول ستريت جورنال". وطلب راين نقل "204 صحافيين وموظفين وعائلاتهم" من المتعاونين مع هذه الصحف، من طريق الجيش الأميركي، من الجانب المدني في مطار كابول إلى الجانب العسكري، حيث "يمكنهم أن يكونوا بأمان في أثناء انتظارهم رحلات الإجلاء".

في وقت لاحق اليوم نفسه، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" بياناً منفصلاً موقعاً من ناشري الصحف الثلاث وموجهاً تحديداً إلى الرئيس الأميركي جو بايدن. يطالب البيان الرئيس الأميركي بتوفير وصول محميّ لزملائهم الأفغان إلى مطار تسيطر عليه الولايات المتحدة، وممر آمن عبر بوابة وصول محمية، وتسهيل الحركة الجوية إلى خارج أفغانستان.

تخلت أكثر من 300 صحافية أفغانية عن وظيفتها، خلال الأشهر القليلة الماضية، بسبب المخاوف الأمنية، وفقاً لـ"الفيديرالية العالمية للصحافيين"

والصحافيات أكثر عرضة للملاحقة وللاغتيال بسبب القضايا التي يغطينها ودورهن العام. في مارس/آذار، قتلت ثلاث نساء يعملن في محطة تلفزيون في مدينة جلال أباد شرقيّ أفغانستان، وتبنى "تنظيم الدولة الإسلامية" العملية لاحقاً. في ديسمبر/كانون الأول، قُتلت صحافية تلفزيونية وناشطة في مجال حقوق المرأة بالرصاص مع سائقها. "تنظيم الدولة الإسلامية" تبنى عملية الاغتيال أيضاً.

مع تقدم حركة "طالبان" في أنحاء البلاد، أُجبرت الصحافيات على العمل في الخفاء، واستخدمت كثيرات منهن الأسماء المستعارة لإخفاء هوياتهن. وكتبت صحافية أفغانية ــ لم تكشف عن هويتها ــ في صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، يوم الثلاثاء الماضي، عن رحلة هروبها بعد سيطرة "طالبان" على مدينتها. وقالت: "قبل يومين اضطررت إلى الفرار من منزلي وترك حياتي ورائي، شماليّ أفغانستان، بعد سيطرة طالبان على مدينتي. ما زلت هاربة، ولا مكان آمناً لي. الأسبوع الماضي، كنت صحافية إخبارية. واليوم، لا أستطيع أن أكتب باسمي، أو أن أكشف مَن أنا، أو من أين أتيت... أشعر بخوف شديد، ولا أعرف ما سيحصل لي. هل سأتمكن يوماً من العودة إلى منزلي؟ هل سأرى أهلي مجدداً؟ أين سأذهب؟ الطريق أمامي مسدودة في الاتجاهين. كيف سأنجو؟".

منذ يوم الأحد، أكثر من صحافية صرحن لمنصة "ذا فولر بروجكت" عن محاولتهن الهرب من كابول، وعن مشاهدتهن رجالاً يصفقون فرحاً لدخول "طالبان" ويشمتون بالنساء قائلين: "لقد أتوا من أجلكن. سيؤدبونكن الآن". مَن لم تتمكن من الهرب إلى الآن، تحدثت إلى المنصة عن الاختباء والخوف من وصول "طالبان" إليها، وقالت إحداهن: "إذا متنا، فقد متنا. وإذا لم نفعل، فسنعيش مع عقدة الذنب لأننا نجونا". وقالت أخرى: "الكل نصحنا بالمغادرة. لكن إن فعلنا، فسنترك قطعة من روحنا وراءنا". أما الصحافية مريم مهتار، فغردت: "إذا نجوت وخرجت من كابول، سأكتب عما حصل اليوم وما سيحصل خلال الأيام المقبلة. سأكتب للعالم لكي يقرأ كيف أنهم، في القرن الـ21، تخلوا عنا".

المساهمون