يعيش الصحافيون التونسيون، بعد إعلان الرئيس التونسي قيس سعيد عن قراراته بتجميد عمل البرلمان وإقالة الحكومة وجمعه بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، بين 25 يوليو/تموز 2021 والأمر الرئاسي عدد 117 الذي أصدره يوم 22 سبتمبر/ أيلول 2021، حالةً استثنائية، ينعكس عليهم فيها المناخ العام من التوتّر والانقسام، ويترجم اعتداءات وقمعا. فالصحافيون لا يحظون برضا أيّ من الطرفين "المتنازعين" وكل طرف يتهمهم بالانحياز للطرف الآخر. لكنّ حالة عدم الرضا تطوّرت إلى اعتداءات متكررة على الصحافيين في كل التظاهرات التي نظّمها أنصار الرئيس التونسي ومعارضوه. آخر الاعتداءات وقع الأحد من قبل بعض معارضي الرئيس التونسي على الطاقم التابع للتلفزيون الرسمي بطريقة عنيفة خلّفت ردود فعل غاضبة وصلت إلى حدّ المطالبة بمقاطعة كل المظاهرات التي ينظمها الطرفان وعدم دعوتهم للبرامج الإذاعية والتلفزيونية، وهو ما أكده الصحافي ايهاب الشاوش الذي قال "آن الأوان أن نعلن يوم غضب للصحافيين. الصحافة ليست جريمة وهي سلطة رابعة بالفم والملأ. آن الأوان لأن يسترجع الصحافي مكانته الاعتبارية والاجتماعية وسط المجتمع، هو قوة رأي و فاعل أساسي في إدارة النقاش العام وإنارته. لا ديمقراطية دون صحافة حرة. لا ديمقراطية دون صحافة جادة. لا ديمقراطية دون إعلام مهني تعددي يخدم الصالح العام".
الاعتداءات على الصحافيين لم تعد بالأمر الجديد في تونس. ففي كل مظاهرة لطرفي المعادلة السياسية يتعرض الصحافيون إلى اعتداءات لفظية ومادية، ورغم مطالبة النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين الأطراف السياسية المتدخلة في الأزمة السياسية في تونس بالنأي بالصحافيين عن هذه التجاذبات وتركهم يمارسون عملهم بكل حرية مع ضمان سلامتهم الجسدية، لكن يبدو أن هذه النداءات لا تلقى آذاناً صاغية لدى الطرفين. ومما زاد الطين بلّة تعرّض الصحافيين إلى الاعتداءات من قبل القوات الأمنية. أوضاع يرى نقيب الصحافيين التونسيين، محمد ياسين الجلاصي، أنها تعود إلى "جو التحريض والهستيريا الجماعية التي أصبحت تعرض حياة المواطنين للخطر. يعني "مواطن يخرج يخدم على روحه" (مواطن يخرج متوجهاً إلى عمله المعتاد) أصبح معرضاً للضرب والموت من قبل مواطنين مثله، والمفارقة أنهم يتظاهرون للمطالبة بالديمقراطية والحرية".
هذه الظروف جعلت الصحافيين التونسيين في موقف حرج ما بين أنصار الرئيس التونسي قيس سعيد وخصومه، وجعلتهم يعملون في ظروف صعبة نتيجة الاعتداءات المتكررة من قبل المتظاهرين، زادها سجن الصحافيين عامر عياد وشذى الحاج مبارك تعقيدًا، خصوصاً أن الزج بهما في السجن جاء على خلفية عملهما الإعلامي الذي اعتبرته السلطات التونسية يهدد الأمن العام. الصحافية شذى الحاج مبارك متهمة في ما يعرف بقضية شركة "إنستالينغو" التي تمّ الكشف عنها في منتصف شهر سبتمبر/ أيلول 2021 تتعلق بشركة منتجة للمضامين الإلكترونية يقع مقرها في إحدى المدن الساحلية التونسية. اتهمت بأنها تدير صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي الهدف منها "تشويه صورة الرئيس التونسي قيس سعيّد، وإرباك الأمن العام"، وهي تهمة نفاها هيثم الكحيلي صاحب الشركة. أما الصحافي عامر عياد، فهو موقوف حالياً على ذمة التحقيق، بينما يتم التحقيق أيضا مع النائب عبد اللطيف العلوي، على خلفية برنامج تلفزيوني على قناة "الزيتونة" رأى القضاء العسكري أنه "محرض على أمن الدولة". وكان المحامي سمير بن عمر كشف أن إيقاف العلوي وعياد تم بأمر من القضاء العسكري على خلفية الحلقة الأخيرة من برنامج "حصاد 24" على قناة "الزيتونة" وأن التهمة الموجهة هي "التآمر المقصود به تبديل هيئة الدولة". ولم يصدر تأكيد رسمي، لكن قصيدة للشاعر أحمد مطر قرأها عامر تقف وراء الإيقاف.
يُضاف إلى ذلك حجز معدات القناة التلفزيونية الخاصة "الزيتونة"، والتهديد بغلق قناتي "نسمة تي في" و"حنبعل تي في" وإذاعة "القرآن الكريم"، وهي تهم اعتبرها الكثير من المراقبين للشأن الإعلامي في تونس مبالغا فيها وتم فيها استغلال نصوص قانونية غير تلك التي تنظم القطاع الإعلامي في تونس وهما المرسومان 115 و116 اللذان ينصان على عدم تسليط عقوبات سالبة للحرية على الصحافيين على خلفية قيامهم بعملهم الإعلامي. فقد حجزت قوات الأمن التونسية معدّات "قناة الزيتونة" الخاصة المقرّبة من "حركة النهضة"، بدعوى أنّها تبثّ "خارج إطار القانون"، وفق "الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري" (الهايكا)، ما استدعى تنديداً من الولايات المتحدة الأميركية. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس للصحافيين: "نشعر بالقلق وخيبة الأمل حيال التقارير الأخيرة من تونس حول التعدّيات على حرية الصحافة والتعبير". ودعا برايس الحكومة التونسية إلى "المحافظة على التزاماتها باحترام حقوق الإنسان كما نصّ عليها الدستور التونسي" ومرسوم أصدره الرئيس قيس سعيّد في سبتمبر/أيلول. وأضاف: "نحضّ أيضاً الرئيس التونسي ورئيسة الوزراء الجديدة على الاستجابة لدعوة الشعب التونسي، لوضع خارطة طريق واضحة، للعودة إلى عملية ديمقراطية شفّافة ينخرط فيها المجتمع المدني والأصوات السياسية المتنوّعة"، وفق ما نقلته وكالة "فرانس برس".
ونهاية الأسبوع الماضي، أصدرت 19 جمعية ناشطة في المجتمع المدني، منها الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية وجمعية الشارع فن، بياناً طالبت فيه بغلق قناتي "نسمة تي في" و"حنبعل تي في" وإذاعة "القرآن الكريم" بعد حجز معدات قناة "الزيتونة" من قبل الأمن التونسي تنفيذاً لقرار الهيئة المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا). دعوة أثارت استغراب عديد العاملين في القطاع الإعلامي والناشطين في مجال حقوق الإنسان لأنه لأول مرة تصدر في تونس جمعيات ناشطة في مجال حقوق الإنسان وحماية الأقليات والتعددية الثقافية بيانًا يدعو إلى غلق مؤسسات إعلامية، واعتبروه مؤشرًا على ضرب كل صوت مخالف للرئيس التونسي قيس سعيد وأنصاره تحت مسمى تطبيق القانون."العربي الجديد" كان له لقاء مع العضو السابق فى المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحافيين، الصحافي ثامر الزغلامي، الذي استغرب دعوات غلق وسائل الإعلام معتبرًا أنها بمثابة ضرب للتعددية والاختلاف الواجب احترامها فى تونس. وأضاف أن هذين القناتين التلفزيونيتين والمحطة الإذاعية عليها تسوية وضعيتها القانونية وفقًا للقوانين التونسيين دون الدعوة إلى غلقها وهو أمر خطير سيشكل مدخلاً لعودة التضييق على الأصوات المخالفة واستعمال الحجج القانونية لتكميم الأفواه. وهو رأي شاركه فيه أستاذ الإعلام بمعهد الصحافة وعلوم الأخبار في تونس، الصادق الحمامي، الذي يرى أن الحل يجب أن يكون في دعوة وسائل الإعلام التي لم تسوّ وضعيتها القانونية إلى الإسراع بذلك دون التفكير فس غلقها لما لذلك من نتائج سلبية على حرية الإعلام العلامة المضيئة في تونس ما بعد 2011.
أما عضوة المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحافيين التونسيين المكلفة بالعلاقات الخارجية، فوزية الغيلوفي، فقالت لـ"العربي الجديد" إن المسألة حساسة ويجب التعامل معها بحذر، فهذه القنوات عليها تسوية وضعيتها القانونية بأسرع وقت ممكن، مؤكدة رفضها لغلق أي وسيلة إعلامية لما لذلك من انعكاس سيئ على المناخ الإعلامي العام، فغلق مؤسسة إعلامية يعني آليا إحالة عشرات الصحافيين على البطالة الإجبارية وهو ما ترفضه النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين.
من ناحيته، أكد رئيس الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا) النوري اللجمي أن هذه الأخيرة لم تدعُ إلى غلق أي وسيلة إعلام، لكنها طلبت من السلطات العمومية التونسية حجز معدات هذه القنوات والمحطة الإذاعية الى حين تسوية وضعيتها القانونية، مبيناً أن هيئته سبق لها أن راسلت منذ سنوات هذه القنوات لكنها لم تستجب لمراسلات الهيئة لأنها كانت تحظى بحماية سياسية من قبل أحزاب نافذة جعلها تمتنع على تسوية وضعيتها القانونية وهو أمر يعتبره غير مقبول، مبيناً أن الأمر يتعلق بتسوية ملف قانوني ولا علاقة له بالتجاذبات السياسية التي تعيشها تونس، مطالباً هذه المؤسسات الإعلامية بتسوية ملفها القانوني ومواصلة العمل وفقاً لما تضبطه القوانين التونسية.
الوضع الإعلامي في تونس يشهد تحولاً كبيراً بعد سنوات تعتبر ذهبية في مجال حرية الصحافة والحريات العامة بدأت سنة 2011 بعد نجاح الثورة التونسية، لكنها تشهد الآن انتكاسة في ظرف حساس بات فيه الصحافيون يخشون على سلامتهم الجسدية من الأطراف السياسية التي يسعى كل منها للسيطرة على الساحة الإعلامية وتوجيهها وفقا لأهدافهم السياسية، وهو الأمر الذي ترفضه النقابات الإعلامية التي ترى أن الضمان الوحيد لديمومة واستمرار الديمقراطية هو حرية الإعلام وعدم ترهيب الصحافيين والسعي إلى تكميم أفواههم والعودة بهم إلى مربع الاستبداد الأول. وضع قد يشهد في الفترة القادمة تطورات جديدة. لكن نائبة نقيب الصحافيين التونسيين أميرة محمد، تؤكد أن النقابة والداعمين لها ستبقى يقظة وستتصدى لكل محاولات تدجين الإعلام التونسي والسيطرة عليه مهما كلفها الأمر.