من الثكنة العسكرية التي احتلها الجيش السوري مع انتهاء الحرب الأهلية في لبنان، كان صوت صباح فخري يصل إلى منزلنا كلّ مساء، لمدة عامَين مثلاً. ثمّ انقطع الصوت، بعدما تبيّن أنّ أحد الجيران اشتكى عند الضابط المشرف على الثكنة، لأنّ أولاده يعجزون عن النوم من الموسيقى، فطلب من العساكر وقف الموسيقى، وهو ما حصل.
لم أستمع إلى صباح فخري بعدها لمدة عشرين عاماً ربّما. كان الجيش السوريّ قد انسحب من لبنان، والثكنة العسكرية تحوّلت إلى ملجأ سري للعشاق، ثمّ لمن أخبرونا أنّهم من "عبدة الشيطان". 20 عاماً مرّت عندما دخلت تلك الثكنة للمرة الأولى: من هنا إذاً كان يأتينا الصوت الذي يردّد مرات ومرات "لاطلع عراس الجبل، وأشرف على الوادي، وأقول يا مرحبا، نسّم هوا بلادي".
عام 2016، وبينما كان الحلبيون المعارضون لنظام بشار الأسد يُخرَجون من مدينتهم بعد حصار استمر 4 سنوات، كنت أحاول أن أجد بين الصور ذلك الجبل الذي أراد فخري أن يقف على رأسه ليرحّب بهواء بلاده. لم أجد الجبل، ولم أجد الهواء لكنّ صوت فخري بقي حاضراً، في اللافتات التي رفعت حول العالم وكتب عليها "يا رايحين عحلب" وعلى جدران المدينة المهجورة.
قد يبدو في هذا الوصف بعض المبالغة، خصوصاً في ظل الانتقادات التي تطاول صباح فخري ومسيرته، سواء قربه من نظامَي الأسد الأب والابن، أو استغلال هذا القرب لإطاحة أصوات حلبية أخرى كان يمكن لها أن تشكّل منافسة لفخري على عرش القدود الحلبية. وهو ما يبدو صحيحاً. وقف الرجل وغنّى لتجديد البيعة لبشار الأسد، تلقى تكريمات من أغلب الأنظمة العربية، وليس في ذلك مفخرة، بل مذمّة.
لكن لا مبالغة في رثاء صباح فخري. يكفي قراءة ما كتبه سوريون لاجئون ومنفيون عن هذا الرحيل، عن انقطاع آخر رابط بقي لهم مع بلادهم، عن صوت صباح فخري، الذي يعيدهم في ليالٍ مظلمة في برلين وإسطنبول والقاهرة، وبيروت إلى منازلهم في حلب والشام وحمص. عن حفلات حضروها أطفالاً، وعن أشرطة كاسيت كانوا يتبادلونها في المدرسة وفي الشارع، وهو يغني "خمرة الحب". عن تجمعات عائلية يصدح فيها صباح فخري على شرفات المنازل وصالاتها، وآباء وأمهات يرقصون على أنغام "ابعتلي جواب". كان ذلك في حياة أخرى، في زمن آخر.
ماذا بقي اليوم من حلب؟ ماذا بقي من صوت صباح فخري ومن رقص الحلبيين؟ ينعى السوريون صباح فخري وهم يعلمون أنّهم ينعون ذكرياتهم، وما تبقى لهم من علاقة ببلادهم البعيدة جداً اليوم، ومن حياة لن تعود يوماً. يقول عمّار منلا حسن في مقال جميل على موقع "معازف" عام 2017 بعد عام واحد من سقوط المدينة ودخول جيش الأسد إليها: "أعلم أنّ حلب قد راحت، وأنّ الأمور ليست على ما يرام، لكن أعلم أيضاً أنّ صوت صباح فخري باقٍ، وأنّ هذا سيساعد دائماً".
صوت صباح فخري، هو نقطة العودة في كلّ مرة بدت فيها سورية بعيدة، محطة جمالية شبه وحيدة يجمع عليها السوريون. لم يعد المطرب السوري موجوداً منذ سنوات، 5 أو 6 سنوات بات فيها مريضاً. اختفى عن الساحة في وسط احتدام المعارك وسقوط الضحايا وتوحّش آلة القتل. ولعلّ في ذلك ما ساعد في بقاء صورته شبه صافية وإن نسبياً في أذهان كثيرين، عكس دريد لحام على سبيل المثال.
سيقال الكثير لاحقاً وبهدوء عن مسيرة صباح فخري، عن مواقفه السياسية، عن علاقته بأجهزة الأمن، وبالرئاسة السورية. وسيقال الكثير كذلك عن كيف كان الرجل أيقونة موسيقية لم تعرف سورية لها مثيلاً منذ أكثر من نصف قرن، وعن صوته الذي شكّل وطناً لمنفيين ومهاجرين ولاجئين، ولأطفال لا يعرفون من سورية سوى صوت صباح فخري.