فيلمه الأول، "سمك وقطة" (2013)، مفاجأة حلوة وجديدة في السينما الإيرانية، كما قيل فيه بعد عرضه في برنامج "آفاق"، في الدورة الـ70 (28 أغسطس/ آب ـ 7 سبتمبر/ أيلول 2020) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي". شهرام مُكري (1978)، مخرج إيراني على حدة. أفلامه الروائية الثلاثة مزيجُ أنواعٍ سينمائية غير معتادة في سينما بلدٍ، يسيطر عليها الفيلم الاجتماعي والحربي. بين البوليسي والخيالي والمُرعب، يخَلق مكري أجواء اضطراب وقلق، ويولِّد مشاعر شكّ وارتياب، بأسلوب إخراجي فريد، وبأدوات قليلة تقوم على شخصيات غير مألوفة، وموسيقى غريبة.
في قصّة تجري أحداثها في زمنها الحقيقي (90 د.)، من خلال تسلسل لقطاتٍ من دون قطع، يسرد "سمك وقطة" مغامرة طلاب جامعيين، يُخيّمون إلى جانب بحيرة في شمال إيران، للمشاركة في مسابقة طائرات ورقية. تواجههم أحداثٌ غريبة، ففي غابة مجاورة، اختفت طالبةٌ في العام السابق، في ظروف غامضة، وأُثيرت في المنطقة ضجّة عن طهيٍ بلحومٍ بشرية.
فيلمه الثاني "هجوم" (2017، "ذات" بالفارسية)، المُشارك في قسم "بانوراما"، في الدورة الـ68 (15 ـ 25 فبراير/ شباط 2018) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي"، لم يكن أقلّ غرابة وفرادة. فيه إشارة إلى مصّاص دماء، هويته الجنسية غير مُحدّدة. فتاة غامضة الجنس، تدخل أراضٍ يريد الجميع تركها، ما يخلق تعارضاً بين فريقين، يجري في ملعب كرة السلّة. أسلوبٌ غرائبي (فانتاستيك) "فامبيري" بوليسي يُحيل، بحسب مخرجه، إلى فكرة الهجرة المنتشرة بكثرة لدى الشباب الإيرانيين.
كفيلمه الأول، عُرض جديده "جناية إهمال" (2020، "جنايت بي دقت" بالفارسية) في "آفاق" أيضاً، في الدورة الـ77 (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2020) لـ"مهرجان فينيسيا"، الذي يبدو، شكلاً ومضموناً، أقلّ غرابة من سابقيه، وأوضح في فكرته، لكنّه يُخلص إلى أسلوبٍ يثير شعوراً بإرهاقٍ وتوتر. متعدّد المستويات، ينتقل بين أزمنةٍ وأمكنةٍ وحكايات وشخصيات، على وقع موسيقى تُعمّق الإحساس بالتوتر، رغم أنّ قصّته مستلّة من أحداثٍ حقيقية، أراد مُكري إخراجها من النسيان.
في العام نفسه الذي شهد ولادة مُكري، اشتعل حريق في سينما "ريكس"، في "عبادان" (جنوب إيران)، أحرق نحو 400 شخص وهم أحياء، لعدم تمكّنهم من الفرار، فأبواب الخروج والطوارئ موصدة من الخارج. الجريمة ـ التي حدثت زمن الشاه، حين كانت الصالة تعجّ بالجمهور ـ ارتكبها 4 أشخاص، أحدهم مدمن مخدّرات. حينها، قيل الكثير عن الجناة. اتُّهمت جماعات معارضة، وأجهزة الشاه. عزا البعض الأمر إلى إهمالٍ غير مُتعمّد لعاملين في الصالة، ومحاولة حشرها بمقاعد إضافية للتحايل على قرارٍ للشاه قضى بتجميد أسعار بطاقات الدخول.
سرد القصّة البسيطة، على هَوْلها، لم يتمّ بالبساطة نفسها، وإعادة تمثيل الجريمة لم يكن هدف مُكري. فالفيلم تأمّلٌ بالحدث، وبعلاقته بالمجتمع والسينما، وبأثر ذلك في المجتمع. هذا كلّه في فيلمٍ غير اجتماعي، اختار مُكري له شخصياتٍ من الماضي ووضعها في طهران اليوم. وبدلاً من اتّباع سردٍ تقليديّ لحكاية تاريخية، تداخلت تصوّرات بحقائق، وتفرّعت محاور، وتوسّع سياق الحكاية، وتعقّد تلقيها.
افتتاحٌ يُمهّد للجريمة: مدير صالة يُصرّ على تكبير قدرة استيعابها. فرج (محمد صربان) مُدمن مخدرات، يجول الشوارع بحثاً عن رجلٍ يزوّده بحبوب مهدّئة. يحدث اللقاء، يا للصدفة، في متحف السينما في طهران. مناسبة للمخرج لتحية فيلمٍ صامت، "جريمة إهمال" (1912) للأميركي هارولد م. شاو، كان يُعرض لتلاميذ. تقود فرج امرأة غريبة الأطوار في دهاليز، قبل لقاء رجل متنكّر يؤدّي دوراً. في مشهد آخر، يحضر مسرح الجريمة مع وصول إلهام، التي تحمل ملصقات دعائية تدور بها ولا تجد من يستلمها. فريق الصالة مشغولٌ بتحضير عرض فيلمٍ، وحجز أماكن، وغير مهتمّ بها. هناك جمهور كبير، ضحية المستقبل، فالجناة الـ4 يحضّرون الجريمة. شابات وشباب ينتظرون في ساحة دار السينما. الجوّ حافل بالحياة والصخب. لقاءات مفاجئة بين أصدقاء، وأحاديث عن السينما، خصوصاً عن "الغزال" (1974) لمسعود كيميائي (فيلم مرجع في السينما الإيرانية)، يبدو أنّه أثّر في الجيل الحالي. في أجواء ما قبل الافتتاح، يُقدّم مُكري صورة واقعية مُعبّرة عن حبّ السينما، وأثرها في القلوب والعقول.
لا يتبع السرد خطاً مستقيماً، ولا يتوقّف عند هذه المحاور. في مَشاهد متقطّعة وغير متسلسلة زمنياً ومكانياً، تتداخل قصص بقصص، وأفلام بأخرى. جنودٌ تعطّلت سيارتهم في الريف، وبانتظارهم المعونة، يعثرون على صاروخٍ غير مُنفجر، من أيام الحرب العراقية الإيرانية. بعد فحصه، يتبيّن أنّه إيراني (أمقصودٌ هذا؟). تتداخل قصّتهم بقصّة فتاتين تحضّران في الطبيعة لعرضٍ سينمائي (أيضاً). يقرّر الجنود مشاهدة العرض على الشاشة. إنه فيلم ثالث، لمخرج اسمه مُكري (!). تتكاثر العروض في عرضٍ واحد. مزيدٌ من ارتباك وجهد في مُشاهدة الفيلم.
مخاطرة كبرى يقوم بها صانع العمل. فبين مَشاهد متحف السينما والساحة التي تغصّ بالجمهور، وأفراد العصابة ورئيسهم (باباك كريمي، المُشارك دائماً في أفلام مُكري)، وتعدّد الشاشات والأفلام. الجمهور أثناء المُشاهدة وقبلها، ثم أثناءها، ثم قبلها. متاهة الزمان والمكان في أحداثٍ لا تبدو العلاقة بينها وبين القصّة الرئيسية بديهية. مثلاً: قصّة والدة إلهام، التي تتعرّف على شابٍ يصغرها سنّاً عبر "انستغرام"، ولا تريد الاعتراف بالسنين. استعادة فيلم كيميائي. زيارة متحف السينما حينها. الأفضل الانقياد تماماً للمسار، وترك الصُور تتجمّع لاحقاً في نسقها المتسلسل، ثم محاولة ايجاد رابط بينها، ربما تنجح وربما لا.
يتطلّب الفيلم قدراً كبيراً من الجهد والصبر، لكنّ قوّة السرد السينمائي لدى شهرام مُكري تستحق المتابعة. مخرج لا يسعى إلى قيادة المُشاهد، وتلقينه الفكرة، وإيصالها بسهولة. يدعه ليشهدَ حيوات أمامه، كلّ مشاهدٍ يجد بنفسه الطريقة التي يستطيع بها إدراك ما يرى وتقييمه، حين تعاودُ المخيلة صُور الفيلم وشخصياته المرسومة بدقّة، حتّى تلك التي تمرّ في مشهد وحيد، كوالدة إلهام. لا يهتم مُكري برواية حدثٍ ما، بقدر اهتمامه برؤيته السينمائية للحدث، وكيفية التعامل مع مأساة كتلك، ودَوْر السينما وأثر الأفلام في الناس، ومن هم هؤلاء الناس.
لا يتطرّق شهرام مُكري للمجتمع الإيراني في فيلمٍ اجتماعي. لكن هذا المجتمع حاضرٌ هنا، بكافة شرائحه (المدمن والمثقف والطالب والعاطل عن العمل، وآخرين)، وبأسلوب تفكيره (المهتمّ والمُهمل والطامع وناكر الواقع، وغيرهم)، ويضع شخصيات الماضي في الحاضر. فهل هذا كلّه ليقول، بأسلوب غير مباشر، أنْ لا شيء تغير؟ هل ليقول إنّ حال المجتمع مُشابه لهذا الصاروخ "الإيراني" الذي لم ينفجر، لكنّه ربما ينفجر في أيّ لحظة؟