قبل نحو أسبوعين، وفي ندوة حول الاستعمار والهولوكوست ومعاداة السامية في قسم الدراسات الثقافية في جامعة هومبولت في برلين، تحدّثت البروفيسورة الألمانية الشهيرة، كلاوديا برونس، لأكثر من ساعة، عن معاداة السامية وإسرائيل، من دون أي إشارة إلى الطبيعة الاستعمارية لهذا الكيان، ومن دون أي ذكر لفلسطين وسكّانها الأصليين الذي يعيشون في ظلّ نظام عنصري، وهو أخف ما يمكن أن يوصف به.
أمام نحو 140 شخصاً، رفعتُ يدي، وقلت لها بوضوح إنّ جانباً من سياسات مكافحة معاداة السامية في ألمانيا تستخدم في قمع الآراء المؤيدة للقضية الفلسطينية، وإنّ الوضع أصبح مثيراً للسخرية، ويقترب من حدود انتهاك حرية التعبير، والأمثلة كثيرة.
الصحافي الألماني ديتر هانيتش، من صحيفة زود دويتشه تسايتونغ، فصل من عمله لأنّه رسم كاريكاتيراً عن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، رغم أنّه تناول في عمله سابقاً زعماء سياسيين آخرين، مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. وعلى الرغم من أنّه أعلن أكثر من مرّة دعمه لإسرائيل وحاول أن يزايد بصهيونيته إنقاذاً لمستقبله المهني، فإنّ ذلك لم يشفع له.
موظفو القسم العربي في شبكة دويتشه فيله تعرّضوا لحملة تفتيش لفحص نسبة تأييدهم القضية الفلسطينية، وذلك من قبل وزارة الخارجية الألمانية. جاء الأمر تفاعلاً مع تقرير صحافي ذي طبيعة استخبارية أجراه صحافي ألماني، ونُشِر في "زود دويتشه تسايتونغ" نفسها. نبش الصحافي حسابات الموظفين العرب، بحثاً عن منشورات مؤيدة للمقاومة الفلسطينية، لتستنفر كلّ الصحافة الألمانية وقتها، وتحذر من "معاداة السامية" المتغلغلة في "دويتشه فيله" وتتباكى على أموال ضرائب المواطنين التي تموّل وكراً من "كارهي اليهود". انتهت الأزمة بمذكرة عامة ذات نبرة تهديدية، وجهت لكلّ الموظفين، وجاء فيها: "لا مكان لمعارضي إسرائيل في دويتشه فيله، وكلمة أبارتهايد (نظام الفصل العنصري) ممنوعة". سكت الجميع خوفاً على وظائفهم ومستقبل أولادهم، في بلد يعاني فيه المهاجرون، وتحديداً الصحافيين والصحافيات منهم، من صعوبات في العمل وتأمين لقمة العيش.
أخذت برونس هذه الأمثلة بروح رياضيّة، ووافقت على كلامي بأنّ الوضع أحياناً "يخرج عن السيطرة". لكنّ لبرونس حدودها التي لا يمكنها تجاوزها. داوت فوراً الجرح الذي تولّد من موافقتها الجزئية على كلامي بقولها إنّ إسرائيل ليست دولة استعمارية، وكلمة "أبارتهايد" غير دقيقة، واختصرت ما يحصل بأنّه أخطاء من قبل الحكومة الإسرائيلية في تعاملها مع "المسألة الفلسطينية"، وحمَّلت اليمين المتطرف من "الطرفين" مسؤولية "تأزم الوضع"، في هروب واضح من مخرج النجاة الوحيد الذي يتّخذه المثقف الألماني المتوتر عند مواجهة الحقّ الفلسطيني. التوتر بين المعرفة العقلانية الواقعيّة بأنّ إسرائيل هي فعلاً دولة أبارتهايد، بنت جدار فصل عنصري بينها وبين السكان الأصليين من جهة، وبين الانسداد النفسي الألماني، وهو من طبيعة عاطفية وليس عقلانية، غُرِس في الشخصية الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية، وهي "حق اليهود في دولتهم"، من جهة أخرى.
الأسبوع الماضي، خرج الوضع عن السيطرة، وصار الهجوم على القضية الفلسطينية خطاب كراهية واضحاً، وانخفض المستوى كثيراً، إذ نشر الصحافي الألماني مارتن كراوس، من صحيفة تاز، مقالاً مسموماً تفوح منه رائحة العنصرية المحضة، عنوانه "المغرب لا تقع في فلسطين" وذلك رداً على رفع أعضاء المنتخب المغربي العلم الفلسطيني بعد الفوز على منتخب إسبانيا، في بطولة كأس العالم لكرة القدم التي تقام حالياً في قطر.
الغريب أنّ "تاز" تقدم نفسها بديلاً يسارياً عن الصحف الألمانية اليمينية مثل "دي فيلت" والشعبوية مثل "داس بيلد". في مقالة كراوس، استغرب رفع علم فلسطين لأنّه "تحويلٌ للصراع العربي - الإسرائيلي إلى مادة للوحدة العربية المزعومة". وطبعاً لإضفاء المنطقية على كلامه، أقحم حركة حماس، وقال إنّ رفع العلم في قطر هو "امتداد لدعم الإرهاب الذي تشنه ضدّ إسرائيل منذ سنوات" ثم أرفق كلامه بالضربة القاضية: "لا يجب إضفاء بهجة معادية للسامية على انتصارات كرة القدم المغربية". أشعل هذا المقال موجات سخرية وضحك وغضب وتنديد على وسائل التواصل الاجتماعي بين أوساط المهاجرين، والألمان المتزنين الذين يشعرون أيضاً بالغضب والإحراج مثلنا عند نشر مواقف كهذه. مواقف لا تفوح منها سوى رائحة الرهاب من كلّ ما يخص القضية الفلسطينية.
خلال الأسبوع نفسه، نشرت قناة دي فيلت تقريراً مصوّراً لا قاع لعنصريته وكراهيته، ليس فقط لفلسطين، بل للإسلام والمسلمين. علّق التقرير على صور لثلاثة لاعبين مغاربة، يرفعون إصبعهم بعد الفوز في غرفة الملابس. قال معدّ التقرير إنّ رفع الإصبع هو تأكيد ودليل على تأييد الفريق المغربي لـ"داعش"، ثم استعرض بشكل درامي لقطات لعناصر التنظيم في سورية وهم يرفعون أصابعهم. طبعاً، لم يذكر التقرير أنّ نحو مليار مسلم حول العالم يرفعون إصبع الشهادة عند الصلاة، وهو تقليد اجتماعي ديني عادي. كما أنّ رفع الإصبع ربمّا لا يكون لأسباب دينية، بل حركة طبيعية من حركات الجسد يستخدمها البشر بشكل غير واعٍ عند شرح أيّ فكرة. التقرير المصوّر أثار تعليقات شديدة الغضب بين أوساط المهاجرين والمسلمين والعرب في ألمانيا، وطالب النقّاد مؤسسة دي فيلت بالاعتذار وتقديم بيان توضيحي عن هذه المسخرة العنصرية.
"دي فيلت" اليمينية و"تاز" اليسارية تلتقيان في الخوف من المنتخب المغربي الذي رفع العلم الفلسطيني في نهائيات كأس العالم. الفرق ضئيل جداً بين اليمين واليسار الألمانيين عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل، وهو أشبه بالفرق بين اليمين واليسار الإسرائيليين عندما يتعلّق الأمر بالشعب الفلسطيني. فرق عبّر عنه أحد الأصدقاء ساخراً بأنّ مشكلة اليسار الماركسي المادي الإسرائيلي بسيطة: قناعاته اللاهوتية الدينية.