أرخى التفجير الإرهابي الذي تسبب بمقتل ثمانية أشخاص وخلّف ثمانين جريحاً، هذا الشهر، ملامح الحزن على شارع الاستقلال في إسطنبول. المقامات الحزينة هي الغالبة على آلات وأداء فرق الشوارع الموسيقية التي تصطف على جنبات أكثر الشارع، لينتصر التصميم على الحياة على صنّاع الموت ودعاته، ويعود إيقاع الازدحام لشارع يمتد على 1400 متر، ويستقبل زهاء مليوني سائح وعابر يومياً.
وقد لا تكتمل زيارة أي سائح لتركيا إن لم يأخذ صورة تذكارية أمام نصب ساحة تقسيم الذي نحته الفنان الإيطالي بيترو عام 1928، قبل أن يتجه إلى شارع الجمهورية أيام الإمبراطورية العثمانية الذي عرف لاحقاً بشارع الاستقلال، بعد إعلان الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1923.
الشارع الممتد من ميدان تقسيم حتى النفق الذي يربط الشارع بمنطقة كراكوي، مروراً بساحة ومدرسة غلطة سراي وبرج غلطة الشهير، ومنطقة بيرا التابعة لمنطقة بيوغلو في القسم الأوروبي من إسطنبول، يأتي في مقدمة الأماكن ومعالم المدينة السياحية، لما يحويه من معالم وتناقضات ترضي السياح وعابريه، على اختلاف أهوائهم وانتماءاتهم. في شارع الاستقلال مراكز ثقافية وسفارات وقنصليات، إلى جانب المساجد ومحال ألبسة المحجبات الأشهر، كما هناك الملاهي الليلية ومحال بيع الخمور، لتأتي المطاعم والمقاهي على الأرصفة ميزة خاصة يتفرد بها عن سواه.
يعود شارع الاستقلال، أو تسميته على الأقل، بعد أن كان يعرف بالشارع الكبير وملتقى المثقفين، إلى إعلان الجمهورية التركية في 29 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1923، حينما تغير اسمه، إحياء لذكرى الانتصار في حرب الاستقلال التركية، وليس كما يقال خلال زمن السلطان محمود الأول الذي أطلق على ميدان تقسيم هذا الاسم نظراً لكونه نقطة تجمع خطوط المياه وتقاسمها، كما تقول الكتب والروايات التركية.
ويحتوي شارع الاستقلال على ترامواي قديم، يعمل منذ 1875، قبل أن يتوقف للتجديد ويُعاد تشغيله عام 1990 لإحياء الجو التاريخي للشارع الذي لا تمر عبره السيارات والمركبات الخاصة، لينقل السائحين من ساحة تقسيم حتى منطقة النفق القديم في منطقة غلطة ومنها إلى البرج، أحد أشهر معالم إسطنبول التاريخية.
وثمة أسرار اختزنها هذا الشارع، لا يفك طلاسمها إلا من يزوره. فالقرب من ساحة تقسيم جانب، والإطلالة على حديقة غيزة التي أشعلت تظاهرات 2013 حين فكرت الحكومة التركية بإزالتها، جانب آخر. وما مراكز الفنون والترفيه، وحتى دار الأوبرا ودور السينما، إلا أجزاء من تلك الأسرار التي يختص بها الشارع، وقد ازدادت تنوعاً بالمحال والمطاعم العربية، بعد ثورات عام 2011، خصوصاً مع احتضان إسطنبول نحو 520 ألف سوري، ومثلهم ربما من مصر وليبيا واليمن والعراق، إضافة إلى سياح الخليج الذين يجدون ضالتهم التسويقية والسياحية في ساحة تقسيم وما حولها.
وقد لا تتوضح أسرار هذا الشارع الذي يتمرد على توقيت الإغلاق إلا ليلاً، حينما تتعالى أصوات الفرق الموسيقية على جانبيه، وتعقد حلقات الرقص والدبكات الشعبية، لتضفي لمسة عصرية تحررية على شارع تاريخي يجمع في تفرعاته الضيقة جميع المتناقضات.
ولا يفوت أكثر من ألف محل تجاري على جانبي الشارع والأزقة المتفرعة التي تضم متحف الشمع والفن الحديث أن تقدم للسائح قوائم بالحلويات التركية والبوظة التي يتفنن باعتها بالخدع وقرع الأجراس، بعد أن تعبر من ممر الزهور الإلزامي لترى ابتكارات الأتراك بتطعيم الورود وابتداع أشكال وألوان غير مألوفة، قبل أن تصل إلى أشهر حمامات إسطنبول، غلطة سراي، وأنت في طريقك إلى البرج الشهير، برج غلطة، الذي طار من قمته هزفران أحمد شلبي في القرن السابع عشر، ليجرب أول محاولة للطيران بالأجنحة الاصطناعية التي فصلها وركّبها بنفسه، قاطعاً مسافة 3358 متراً، قبل أن يسقط في حي أسكودار على الطرف الآسيوي من إسطنبول.