سينما في الفضاء: ليس في الأرض متّسع للصراع

24 مارس 2022
طاقم الفيلم الروسي "التحدي" في طريقه إلى الفضاء (روسكوزموس/ الأناضول)
+ الخط -

على الرغم من التوتر المتزايد بين الدولتين، يتفق الروسي والأميركي، حتى اليوم، على كون الفضاء هو معقل التعاون الأخير بينهما. تصريحات حرضها مصير رائد الفضاء الأميركي مارك فاندي هاي الذي يجول الفضاء برفقة رائدي الفضاء الروسيين بيوتر دوبروف وأنتون شكابليروف، وسط أنباء عن تهديدات روسية بترك فاندي هاي معلقًا في الأعلى. وأكدت وكالة ناسا، أخيراً، أنّ الاتفاق السابق جارٍ، ورائد الفضاء الأميركي سيعود إلى الأرض على متن مركبة روسية في نهاية هذا الشهر، بعد 355 يوماً أمضاها في الفضاء محققاً رقماً قياسياً عالمياً.
الاتفاق الودي، الذي قلّما نرى مثله في العلاقات بين الدولتين، يُخرق تماماً عندما يتعلق الأمر بالصناعات الترفيهية الخاصة بالفضاء الخارجي؛ فإذا كنا نعتقد أنّ الصراع الروسي الأميركي على صناعة أفلام الخيال العلمي في سبعينيات القرن المنصرم قد انتهى، فربما سنُفاجأ بأنّه بات أسوأ، وأشد استعراضاً وبذخاً مما كان عليه سابقاً. انتهت حقبة Solaris و2001: A Space Odysse، ومعها اندثرت أساطير "التنافس الإيجابي" التي قدمت للعالم أعظم إنتاجات السينما، وبدأت أخرى يقودها إيلون ماسك هذه المرة، هدفها صناعة أول فيلم درامي في الفضاء الخارجي.


بدأ التنافس على ريادة القطاعات الترفيهية في الفضاء منذ عام 2020، مع إعلان وكالة ناسا الأميركية، بالتعاون مع مؤسس "سبايس إكس" إيلون ماسك، عن تصوير أول فيلم درامي في الفضاء من بطولة توم كروز وإخراج دوغ ليمان، إلّا أنّ روسيا سارعت لانتهاز الفرصة وسبقت كبسولة "سبايس إكس"، ومعها الولايات المتحدة الأميركية، إلى محطة الفضاء الدولية عبر فيلم The Challenge، من بطولة الممثلة يوليا بيريسيلد وإخراج كليم شيبينكو.
أثارت عودة طاقم التصوير الروسي إلى الأرض، عقب تصوير مشاهد الفيلم في الفضاء منذ أكتوبر/تشرين الأول 2021، أنباء عديدة غير رسمية عن موعد صدور الرد الأميركي، وسط شائعات تقدر حجم ميزانيته بـ200 مليون دولار أميركي.


لكن من المؤكد أنّ الفيلم الأميركي المنتظر، والذي فشل في أن يكون الأول، لن يكون الأخير، بل ما هو إلّا بداية لشكل جديد من الإنتاجات السينمائية القادمة؛ إذ أعلن منتجو فيلم الفضاء المستقبلي عن خططهم لبناء محطة فضائية بحلول ديسمبر/كانون الأول 2024، وذلك بتعاقد بين استوديو Space Entertainment Enterprise وشركة "آكسيوم" لتأسيس الوحدة الأولى في العالم "لصناعة المحتوى الترفيهي والاستديوهات والساحات متعددة الأغراض في الفضاء".

تستضيف الوحدة المزعومة عمليات التصوير السينمائي والتلفزيوني والأحداث الرياضية والموسيقية، وتُمكّن الفنانين والمنتجين وغيرهم من المبدعين من إنشاء محتوى خاص بهم في الفضاء، في سابقة لم يشهد التاريخ المعاصر مثلها بعد.
لم يعد يقتصر الأمر على مغامرات الأثرياء اللاأرضية، إذاً، فمن شراء مقاعد في مركبات لا تعد راكبها بالعودة، و"التصوّف الفضائي"، وبث يوميات الفضاء في محاولة لـ"تأريض" السماء، إلى اعتلاء ما يُروج له على أنّه "وسيلة نقل" أخرى لا وجهة لها، يجد رأس المال طريقه دوماً.
اليوم، يدخل الفضاء عالم الترفيه بابتكار أميركي يصارع الزمن ليكون الأول، جاعلاً الفضاء ساحة أوسع للبروباغندا السياسية، مثيراً الرعب في أوساط العلم التي ترى أنّ إقحام المدارات الأرضية المنخفضة في فلك الصناعات الترفيهية سيشكل في المستقبل القريب خطراً علمياً حقيقياً على الفضاء وغزاته على حدّ سواء. يجادل نقاد التوجه العالمي الجديد حول عبثية ذلك المسعى، مؤكدين أنّ آثار التدخلات البشرية في الفضاء لا تزال غير معروفة حتى الآن، خصوصاً أنّ استديو التصوير المفترض بناؤه لن يكون إلّا فاتحة لمشاريع تجارية عدة، من المرجح أنّها ستسفر عن أخطار بيئية محتملة، يبدو أنّنا في غنى عنها.
أما أكثر ما يثير الخوف في تلك الطموحات الهوليوودية السمائية، فهو أن يلعب التنافس التجاري، والرغبة في زيادة الأرباح، دوراً حاسماً في صك معايير الجودة والسلامة؛ فاستعجال النتائج سيؤدي حتماً إلى خرق بروتوكولات الأمن، واختصار فترات التجارب العلمية، التي من شأنها حفظ سلامة المسافرين، وهذا بالضبط ما نشهده اليوم في مجال صناعة المركبات الفضائية، خصوصاً تلك التي تنتجها شركة "سبايس إكس".
فضلاً عن تدابير الأمن والسلامة، يثير اقتصاديون عالميون أسئلة عدة حول "المنفعة" التي تعود بها اقتصاديات الفضاء على المصلحة العامة، حتى إنّ بعضهم دعا إلى فرض ضريبة رفاهية على سياحة الفضاء. لكنّ تصدير الصناعات الترفيهية إلى السماء من المؤكد أنّه لن يخفف آثار التفاوت الطبقي، بل سيزيد من حدية السباق المحموم على اقتصاد الفضاء، الذي يبدو حتى الآن أنّه يصب في مصلحة قلة قليلة فقط من أثرياء الكوكب ومغامراتهم الأسطورية، وفعالياتهم الثقافية العُلوية التي سيُستثنى منها البقية، وهم ممتنون لصراحة بيزوس حين شكر مستخدمي "أمازون" وموظفيها على دفع تكاليف رحلته إلى الفضاء في يوليو/تموز 2021.
أما من الناحية العلمية، فلعلّ سياحة الفضاء واستخدامه "زينة" وديكوراً لأفلام الإثارة هما من أسوأ الضربات التي وُجهت لعلم الفضاء وللمنهج والفكر العلميين والماديين خلال تاريخنا المعاصر. ما من إنتاج، بل فقط استهلاك واستنزاف لموارد الأرض المحدودة أصلاً. ففي حين كان من المفترض أن تُستثمر كلّ أدوات العلم والتكنولوجيا الحديثة لسبر غور الفضاء واكتشاف مساحاته واختبار إمكانياته المجهولة حتى الآن، توظف موارد اليوم في خدمة قطاعي السياحة والترفيه، وتُحجَّم هبات الفضاء اللامنتهية، وتُهمَل موارده غير المكتشفة في سبيل تحويله إلى موقع تصوير خام.
فضلاً عن تجاهل الدافع الأساسي لصعود الإنسان إلى الفضاء، والذي يتمثل في حل معضلته، وليس الاستمتاع بغرائبيته، ليس من المستغرب ألّا نرى رواداً يجولون الفضاء بعد اليوم، بل فقط رواد أعمال (Entrepreneurs) وزواراً وسياحاً وفنانين، أو ربما بعض الحالمين بزيارة الفضاء ممن صادفهم الحظ لربح تذكرة العبور، وهذا ما يُتوقع حدوثه عند إطلاق برنامج التلفزيون الواقعي Who Wants to Be an Astronaut (من يريد أن يكون رائد فضاء)، الذي أُعلن عن عرضه حديثًا على قناة "ديسكوفري". على غرار برنامج Who Wants to Be a Millionaire، يتيح برنامج الفضاء الجديد فرصة فوز رحلة إلى محطة الفضاء الدولية، في مهمة تمولها شركة "آكسيوم".

ربما بات شعار "جعل الأرض مكاناً أفضل" باهتًا بعض الشيء، خصوصاً إذا ما قورن بالفكرة اليوتوبية المروج لها في استيطان مكان آخر، لكنّ الجدالات العلمية وحدها هي ما تجعل فكرة بناء استديوهات تصوير سينمائية في الفضاء فكرة مشكوكاً بها؛ كيف تجعلنا تلك المشاريع نسخة أفضل عن أنفسنا؟ وما الذي تجنيه غالبية سكان الأرض منها؟

المساهمون