بين 20 و28 أغسطس/ آب 2021، تُقام الدورة الـ55 لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي" في تشيكيا، المهتم بسينما أوروبا الوسطى والشرقية منذ تأسيسه عام 1946. يُعتبر المهرجان مرآو لسينما تلك البلدان، ومنبراص يُتيح لها إطلالة على العالم، ما يجعله أساسياً في خارطة المهرجانات الدولية، خصوصاً أنّه مُصنَّف "فئة أ"، إلى جانب مهرجانات برلين و"كانّ" وفينيسيا.
في هذه المناسبة، تبدأ "العربي الجديد" نشر مقالاتٍ تأريخية ونقدية وتحليلية لبعض أبرز سينمات أوروبا الشرقية، الحاضرة بجمالياتها وسجالاتها وتأمّلات صانعيها في أحوال بلدانهم والعالم، اجتماعياً وسياسياً وحياتياً واقتصادياً.
سينما وسياسة
عند استكشاف، أو إعادة استكشاف مراحل التطوّر السينمائي وجماليات السينما في دول أوروبا الشرقية، يصعب للغاية عدم التطرّق إلى التاريخ السياسي لتلك المنطقة، بالغة التعقيد والتركيب، لغوياً وعرقياً وثقافياً، وحتّى دينياً. تلك البقعة الجميلة جداً، والمُتَجَاهَلة بشدّة، حتّى في السياق الأوروبي نفسه.
عانى شرق أوروبا ووسطها، تحديداً، آثار حربين عالميتين: تقسيمٌ أحياناً، واحتلال ألماني حتّى نهاية أربعينيات القرن الـ20. ثم تعاقب أنظمة فاشية أو شيوعية مُستبِدّة، استمر بعضها عقوداً عدّة. مع ذلك، يكاد يتفوّق التاريخ السينمائي لتلك البلدان، بلغته وجمالياته ومواضيعه وثرائه، على بلدانٍ كثيرة في العالم، لم تعرف الظروف والأوضاع القاسية نفسها، التي كابدتها تلك البلدان سنين مديدة.
يصعب القول إنّ تاريخ سينما بلدان أوروبا الشرقية كلّها كان مُتألّقاً أو مُبهراً. في أعوامٍ عدّة، كانت السينمات البولندية والمجرية والتشيكية والبلغارية، والرومانية أساساً، الأنشط والأغزر والأكثر إفرازاً، يصنعها مبدعون عالميّون مُميّزون، مُقارنةً بدول أخرى، كسلوفينيا وكرواتيا وصربيا والبوسنة وأوكرانيا.
رغم الاختلافات الكثيرة المذكورة أعلاها، على مستوى اللغة والنطق ورسم الحروف، يحفل تاريخ سينما تلك البلدان بقواسم مشتركة كثيرة. في السينمات البولندية والمجرية، والتشيكية إلى حدّ ما، يُلاحَظ ـ منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي ـ الولع بالتاريخيّ القوميّ، والإعلاء به، وازدياد نبرة التغريب، والكوميديا السوداء، وخشية المجهول. هذا يبرز في أفلامٍ بولندية كـ"فرعون" (1966) ليَرْزي كفالِروفيتش، و"حظّ سيئ" (1959) لأندرْزَي مونك، و"جميع أبناء وطني" (1968) لفويتيخ ياسْني، و"قطارات تحت الحراسة المشدّدة" (1966) ليَري يمنزل (تشيكيا)؛ أو ملاحظة ورصد الحياة اليومية ومفرداتها، في إطارٍ من المرح والسخرية تارةً، أو في سياقٍ مُغلّف بنزعة حسية، تارة أخرى: "سكين في الماء" (1962) للبولندي رومان بولانسكي، و"زهور المارغريتا" (1966) للتشيكية فيرا شيتلوفا، و"إعادة تشكيل" (1968) للروماني لوسيان بنتلي.
تميّزت سينما شرق أوروبا بقوّة السينما التسجيلية، وفنيّاتها اللافتة، والتجديد فيها، والمزج البارع بين الروائي والتسجيلي. لذا، ليس غريباً أنّ كشيشتوف كيشلوفكي وأندرْزَي مونك وكشيشْتوف زانوسي (بولندا)، وميكلوش يانتشو (المجر)، وميلوش فورمان ويان نيمتش (تشيكيا)، وألكسندر بيتروفيتش (صربيا)، من بين آخرين، بدأوا حياتهم بأفلامٍ تسجيلية رفيعة المستوى.
كما كان للأدب حضوره كوسيطٍ مهمّ، استلهمته سينما أوروبا الشرقية إلى حدّ كبير، ليس فقط كمادة قصصية سردية، بل أيضاً كفلسفة حياة وأسلوب ورؤية، وتقنيات أحياناً. في بعض الأوقات، كانت الأفلام تُقتَبس من أعمالٍ كلاسيكية أو مُعاصرة. أحياناً، مارس أدباءٌ الكتابةَ المباشرةَ للسينما، ما ساهم في تطوير تلك السينما وجمالياتها، والخروج بها إلى آفاقٍ غير مسبورة، إلى حدّ كبير. من بين ما استلهمته السينما البولندية مثلا، أعمال لتاديوش كونفيتسكي ويجي ستفان ستافنكسي وميلان كونديرا وبوهومِل هرابال (تشيكيا)، وتيبور ديري ولازلو كرازناهوركاي (المجر)، وميرسيا إلياد وهيرتا مولر ولوسيان بنتلي (رومانيا).
تحريك وتوثيق
في ظلّ النظم السياسية المختلفة في تلك البلدان، كان على السينمائيين أنْ يلجأوا إلى أساليب غير مطروقة لتفادي الرقابة، أو مُصادرة أعمالهم أو منعها، أو حتّى التنكيل الشخصي. "أعمال الرفّ" كانت مشهورة في تلك الدول، ويُقصد بها تلك التي تُركَن على الأرفف لأنّها لا تُعرض، ومنها قلة لم تُعرض فعلياً لعشرين أو ثلاثين عاماً. لذا، كان طبيعياً أنْ يلجأ مُبدعو تلك البلدان إلى الاستعارة والمجاز والتضمين والرموز والغموض، وإلى الإحالات غير المباشرة. الأمثلة كثيرة، بعضها يتّضح في أفلام أندريه فايدا وكشيشتوف كيشلوفسكي ويجي سكليموفسكي وميكلوش يانتشو وزولتان فابري واشتيفان سابو، وغيرهم.
في يوغوسلافيا السابقة، ذات القوميات المتعدّدة، كانت السينما الكرواتية والصربية تحديداً على قدرٍ كبير من التطوّر والتنوّع والانفتاح، في أفلام رسوم متحرّكة، وأخرى تسجيلية. كذلك تميّزت أفلام روائية كثيرة، كـ"إنّها تمطر في قريتي" (1968) لألكسندر بيتروفيتش، و"استيقظت الفئران" (1967) لزيوفين بافلوفيتش، و"أسرار الكائن الحي" (1971) لدوسان ماكافييف.
مع "ربيع براغ" (1968)، ازدادت جرعة الحرية والتفاؤل بالمستقبل، وتنوّعت مواضيع الأفلام التشيكية والسلوفاكية، وانفتحت على ما لم يكن مَطروقاً من قبل. لكنْ، مع الغزو السوفييتي، انهار هذا كلّه، وازدادت قيود الإنتاج والرقابة، فاضطرّ البعض إلى الخروج من البلد، كإيفان باسر وميلوش فورمان. كذلك، فرَّ من بولندا رومان بولانسكي ويجي سكوليموفسكي ودوسان ماكافييف (يوغوسلافيا)، وغيرهم الكثير. منهم من هاجر على أساسٍ دائمٍ ونهائي، ومنهم من عاد سريعاً، أو بعد فترة. قلّة نجحت في الخارج، وكُثرٌ طواهم النسيان.
تأمّمت صناعة السينما في بولندا وتشيكيا ويوغوسلافيا عام 1945، وفي تشيكوسلوفاكيا ورومانيا عام 1948. إلى ذلك، لم تكن السينما تُستَخدَم أو تُعامَل كفنّ، بل كأداة تأثير أيديولوجي، وترويجٍ للأنظمة، ومنها الاشتراكية وقيمها.
في ظلّ تلك القبضة المؤسّساتية، إنتاجاً وتوزيعاً وتمويلاً، استفادت الصناعة بشدّة في تلك الفترات، في أوروبا الشرقية، رغم التأميم. إذْ كانت مُساهمة الدولة رئيسية في الإنتاج، عبر ما يُعرف بنظام المنح أو الدعم. لكنّ هذا النظام أدّى، من جهةٍ أخرى، إلى المركزية والبيروقراطية وتدخّل الأحزاب. وقبل ذلك، إلى فرض أيديولوجية الدولة.
اللافت أنّ الدول ذات التاريخ العريق، والحضور البارز، والأسماء المعروفة في سينما أوروبا الشرقية، لديها معاهد محترمة لتدريس فنون السينما. مثلاً، تأسّست في العاصمة التشيكية، براغ، "أكاديمية فنون السينما والتلفزيون"، عام 1946؛ و"مدرسة وُدج للسينما" في مدينة "وُدج" في بولندا عام 1948؛ و"الأكاديمية الوطنية للسينما والمسرح" في العاصمة البلغارية صوفيا، عام 1948؛ و"أكاديمية المسرح والسينما" في العاصمة الرومانية بوخارست، عام 1950.
مدارس وأكاديميات وجامعات عدّة، كـ"الجامعة المجرية لفنون المسرح والسينما" (بودابست)، وورش عمل واستديوهات صغيرة، أو ما كان يُطلق عليه اسم "الوحدات"، وجماعات وأندية السينما، أو "المجموعات"، مثل "كادر" في بولندا، و"أوبجيكتِفْ" في بودابست؛ هذه كلّها ساهمت في اكتشاف وتخريج عشرات المواهب في مختلف بلدان أوروبا الشرقية: أندريه فايدا ورومان بولانسكي وآنييشكا هولاند وكشيشتوف كيشلوفسكي (بولندا)؛ ويَري مينزل وفيرا شيتلوفا وميلوش فورمان (تشيكوسلوفاكيا)؛ وشتيفان سابو وإلديكو إنيدي وبيلا تار وميكلوش يانتشو (المجر). كما ساهمت في خلق "موجات"، كـ"السينما التشيكية الجديدة"، و"الموجة السوداء في يوغوسلافيا"، و"الموجة البولندية الجديدة". حدث هذا في ستينيات القرن الماضي، وقدّمت ما هو مُختلف على مستوى الرؤية والجماليات الفنية والطرح.
قمعٌ وتمرّد وانغلاق
اللافت أيضاً، وبشدّة، رغم التنوّع الجغرافي للمنطقة، واختلاف الأزمان، والتباين بين الأجيال، والقمع والتمرّد والثورات، أنّ سينمات تلك المنطقة لم تُفرز مُخرجات، فرضن أنفسهن على الساحة، أو اتّسم إنتاجهنّ بالفنيّة أو الغزارة. لم تبرز، في عقودٍ عدّة، أسماء رسخت وتركت بصمة في سينما أوروبا الشرقية، باستثناء البولندية آنييشكا هولاند، والمجرية مارتا ميزاروش، والتشيكية فيرا تشيتلوفا. فقط مؤخّراً، بدأت بعض الأصوات الشابة تظهر، بين حين وآخر.
منذ منتصف خمسينيات القرن الـ20، حتّى نهاية ثمانينياته ومطلع تسعينياته، حاولت دولٌ كثيرة في تلك البقعة الجغرافية أنْ تخرج من أسر أنظمتها الاستبدادية، الفاشية والشيوعية: بولندا والمجر وتشيكيا ورومانيا، مثلاً. "ربيع براغ" (1968) و"الثورة المخملية" التشيكية (1989)، و"حركة التضامن" في بولندا (1980)، مُحاولات بين أخرى ساهمت في تحرير تلك البلدان، وتمهيد الطريق إلى مستقبل مُشرق، من دون تناسي عوامل أخرى، كانهيار جدار برلين، وسقوط الشيوعية.
بعد سقوط الشيوعية، اختلفت مراحل تعاطي دول أوروبا الشرقية مع الماضي وتبعاته، من حيث طي صفحته، أو التصالح معه، أو الانزلاق إلى مشاكل كارثية فجّرت حروباً أهلية، كما في يوغوسلافيا. بينما خطت السينما البوسنية، مثلاً، خطوةً حاسمة تجاه طرح مواضيع الحاضر والمستقبل. السينما الصربية والكرواتية، مثلاً، غاصت بكثرة في ثنايا الماضي الدموي العنيف، وكانت أحياناً تستشرف المستقبل في ظلّه.
لم تكد بلدان أوروبا الشرقية تنعم بحريتها، وبخروجها من تخبّطاتها، وتُفارق إرثها الأليم، حتى واجهت صدمات أخرى، ليس أقلّها الحداثة، وجبروت الرأسمالية ووحشيتها. تبدّل العالم وقوانينه تماماً، مُقارنة بالنظم الأحادية التي عاشت في ظلّها عقوداً عدّة. لذا، كانت الفجوة عميقة بين سينما الماضي والحاضر في كثيرٍ منها، صناعةً وفنيةً وجماليات، وحتّى تكنولوجياً، ما أدّى إلى فجوة ملحوظة على مستويات عدّة أيضاً، سردية وتقنية وأدائية. لكنْ، في بعض السينمات الراسخة، كالبولندية والرومانية والمجرية، لا توجد تلك الفجوة الشاسعة، وبالغة العمق، إذْ ناقشت الأجيال الجديدة، أحياناً كثيرة، مشاكل الحياة اليومية ومآسيها، بلغة معاصرة، وتناولت الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، في ظلّ النظم الشيوعية السابقة، بلغة وبنية وجماليات مُغايرة وجذّابة، وجريئة للغاية. لم تتورّع عن مهاجمة الدولة، وانتقاد ذبح المجتمع، ونقد الدين وإدانة التديّن الزائف، ما شكَّل، ولا يزال يُشكِّل صدمةً بالغة لتلك المُجتمعات، المحافظة بعض الشيء، وشبه المُنغلقة.