استمع إلى الملخص
- عبد السلام الكلاعي يسلط الضوء على العوامل التي أدت إلى صعود اليمين والشعبوية، بينما يركز محمد بكريم على العلاقة بين السينما والسياسة في الولايات المتحدة وتأثير فوز ترامب.
- هشام العسري يقدم رؤية ساخرة لإعادة انتخاب ترامب، مشيرًا إلى أن أمريكا تُدار كشركة تجارية، ويعتبر أن عودة ترامب فرصة للضحك والسخرية من الوضع السياسي.
استكمالاً لملف "العربي الجديد" عن نظرة سينمائيين عرب إلى المرحلة المقبلة من حكم دونالد ترامب، المنشور في حلقتين (18 و20 ديسمبر/ كانون الأول 2024)، هنا حلقة خاصة بقراءة عاملين وعاملات في السينما المغربية، إخراجاً ونقداً وكتابةً، لتلك المرحلة نفسها (ترتيب الأسماء بحسب التسلسل الأبجدي للاسم الأول).
انتخاب ترامب، أو بالأحرى إعادة انتخابه، ليس بداية، بل مجرّد مرحلة، خطوة جديدة في عملية جارية منذ سنوات. يبدو لي أنّ كثيرين منّا يشعرون كأنّنا ولجنا بُعداً جديداً. نحن نعيش بالفعل في مجتمع دولي، لم يعد يُنظَر فيه إلى القانون الدولي، واستقلالية الصحافة، وحرية الشعوب، والسعي إلى الديمقراطية، على أنّها أهداف ينبغي تحقيقها.
نتحدّث في الأوساط، التي لا تزال تقاوم، عن الفاشية والشعبوية والرأسمالية والاستعمار الجديد وأزمة الديمقراطية. لكنْ، كلّ هذه الكلمات تبدو متجاوزة وعتيقة ومغبرّة. إنّها كلمات من القرن الـ20، ونحن بحاجة إلى كلمات جديدة للشروع في التفكير، وفي كتابة تاريخ القرن الـ21 وتصويره. نعلم جيداً طبيعة الفاشية والاستعمار، ونعرف تكلفتهما، ومن يدفع الثمن. لكنْ، ما يغرق فيه الكوكب شيء آخر، أفظع بلا شكّ. الأمر لا يتعلّق فقط بالمجازر والاستعباد، وهذان يحصلان فعلياً، بل أيضاً، وربما قبل كلّ شيءٍ، بغزو العقول. غزوٌ شامل.
لهذا السبب، نحن بحاجة إلى العثور على كلمات جديدة. فانتخاب ترامب، وتسارع الكارثة المناخية التي أوجدتها الرأسمالية الجامحة، يجعلان هذا مُلحّاً للغاية. إنّ بقاء البشرية على المحك، وأعتقد أنّ المقاومةَ الثقافية فوق كلّ اعتبار. لن نهزم دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو وإيلون ماسك وفلاديمير بوتين، ونظراءهم الآسيويين والشرقيين، بقوّة السلاح. لا يمكن لأي مستوى من حرب العصابات أنْ يتغلّب على هذه السلسلة الديكتاتورية التي يصطفّ فيها الجميع في الجانب نفسه. ينبغي علينا تحرير العقول. هذه مهمّتنا، مع أنّها صعبة جداً. علينا أنْ نصنع الحقيقة في عالمٍ غدت فيه الأكاذيب عملة سائدة. إذا استسلم المثقفون والمبدعون، إذا انضمّوا إلى جحافل الحاشية والعملاء الذين يوفّرون كلماتٍ وصُوَراً كاذبة، فلا أمل هناك.
لكنّي أؤمن بالشباب الذين لطالما كانوا قادرين على إحياء الأمل. ليس أمامي خيار سوى أنْ أضع ثقتي فيهم، وأنْ أضع خبرتي، التي ستبلغ 60 عاماً قريباً، في خدمتهم، بكلّ تواضع.
صوفيا علوي
بصفتي مخرجة سينمائية، مغربية وفرنسية، أشهد اليوم واقعاً عالمياً أصبح أحَدّ مع تولي دونالد ترامب فترة رئاسية ثانية. إعادة انتخابه تمثّل نقطة تحوّل مُقلقة إلى عالمٍ، يبدو فيه أنّ الاستبداد والانعزالية يكتسبان زخماً في مواجهة التحدّيات المُلحّة في عصرنا. بصفتي امرأة منقسمة بين ثقافتين، أشعر بتأثير هذين التوتّر والتشرذم المتزايدَين. يساورني قلق عميق بشأن المستقبل، الذي يتشكّل في هذا المناخ من انعدام الثقة واللامبالاة إزاء الحقوق المدنية، والتحدّيات البيئية، والتراجع عن قيم الانفتاح.
هذا السياق مُقلق بشكل خاص بالنسبة إلى المناطق الهشّة أصلاً، كالشرق الأوسط، حيث تزداد حدّة التوتّرات. هذا التطوّر ليس محض تجريد، إذْ يؤثّر بشكل مباشر على قيم الأجيال الجديدة، ويُعيد تشكيل العالم الذي نستمد منه، نحن الفنانين، إلهامنا. لا يُمكن لأعمالنا أنْ تتجاهل الأزمات العالمية، وعدم المساواة، وعودة الحواجز الحقيقية والرمزية بين الشعوب. يُمكن للسرديات الفنية، المُتجذّرة في الثقافات المتنوّعة، أنْ تُقدّم بديلاً، وتفتح سُبلاً جديدة للتفاهم.
في ضوء هذه الخلفية، أنا مُقتنعةٌ بأنّ الفن والثقافة يلعبان دوراً حيوياً، لا سيما القصص المقبلة من العالم العربي. أحياناً كثيرة، يتمّ تأويل هذه القصص أو تبسيطها من خلال منظور أجنبي، يحدّ من ثرائها وأصالتها. علاوة على تجسيد المعاناة والأزمات، يُمكن للسينما والفنّ أنْ يحتفيا أيضاً بالتنوّع الثقافي، والجزئيات الدقيقة في حياة العرب. يُمكنهما تجاوز القوالب النمطية، وإبراز الأصوات التي لطالما هُمِّشت، وتعزيز الرؤى الفريدة التي تنبثق من هذه المنطقة المعقّدة والديناميكية.
تمتلك الروايات العربية القدرة على إثراء الساحة العالمية، بتقديمها منظوراً مختلفاً لمواضيع تلامس الإنسانية جمعاء: الهوية والصمود والسعي إلى تحقيق السلام والمساواة. بالفنّ، يُمكننا أنْ نكشف عن قصصٍ، تكون غالباً غير مرئية، وتغدو، في سياق الاستقطاب الإعلامي والانقسام السياسي، أعمال مقاومة وتضامن. فالسينما مثلاً أثبتت أنّها أداة قوية لتفكيك الأفكار المسبقة، والتقريب بين المجتمعات المتناقضة سياسياً.
بسردها هذه القصص، يُمكن للسينما أنْ تصبح ليس مجرّد مرآة، بل منارة. حين تُسلّط الضوء على ما نحن مُعرّضون لخطر فقدانه كمجتمعات، وما يكون بإمكاننا الحفاظ عليه. في عالمٍ تبدو فيه قيم السلام والانفتاح ثمينة بشكل متزايد، ينبغي أنْ تلعب الأعمال الفنية المنبثقة من الثقافات العربية دوراً حاسماً. إنّها تساعدنا على فهم الآخرين، وبناء الجسور حيث يقيم آخرون جدراناً. هذا الحوار ضروري للتذكير بأنّ تنوّع وجهات النظر والتجارب يُمثّل ثروةً لا تُقدّر بثمن.
ليس لقصصنا القدرة فقط على عكس العالم كما هو، بل أيضاً على تخيّل العالم كما يُمكن أنْ يكون. يتحمّل الفنانون العرب خاصة مسؤولية إظهار واقع إنساني عميق وكوني، ومنح الحياة إلى قصصٍ تُلهم وتُعيد الأمل. في وقتٍ تهيمن فيه التوتّرات على الخطاب، مُلحّ أنْ نعيد إحياء العالم مجدّداً، وأنْ نُذكّر بأنّ الفن والثقافة يتجاوزان الانقسامات، ويجمعان الأرواح.
ربما تبدو هذه الولاية الثانية بمثابة تحدٍّ. لكنّها أيضاً دعوة إلى مضاعفة جهودنا للتعبير عن المرونة والتضامن. لذلك، يجب أنْ تُظهر أعمالُنا العالم العربي بكلّ أطيافه وجماله وتعقيداته، وقدرته على مقاومة خطابات الإقصاء. يُمكن للفن، إذا كان أصيلاً ومُتجذّراً في الثقافات التي يُمثّلها، أنْ يستمر في إلهام الأجيال، وأنْ يُقدّم لها رؤية لا يكون فيها الأمل والوحدة مُثُلاً بعيدة المنال، بل حقائق ممكنة.
عبد السلام الكلاعي
تندرج إعادة انتخاب دونالد ترامب في مسار صعود اليمين والشعبوية في السنوات الأخيرة، والذي يعزى لعوامل متشابكة تؤثّر على الاستقرار الاجتماعي والسياسي في دول عدّة.
أولاً، عولمة وهيمنة الرأسمالية الاقتصادية التي أدّت إلى فقدان عدد من العمال وظائفهم، وظهور فجوات اقتصادية متزايدة بين الطبقات، ما زاد من الإحساس بعدم الأمان الاقتصادي. شعورٌ غذّى الاستياء تجاه النخب التقليدية وسياساتها الاقتصادية، التي صار الناخبون يرون أنها تخدم القلّة.
ثانياً، تزايد الهجرة والنزوح الناجم عن الصراعات وتغيّر المناخ جَعلا من قضايا الهوية والانتماء محاور رئيسية في السياسة. غالباً ما يستغلّ الشعبويون هذه المخاوف، ويُقدّمون حلولاً بسيطة تعتمد على إلقاء اللوم على "الآخر"، سواء كانوا مهاجرين أمْ أقليات.
أخيراً، زادت وسائل التواصل الاجتماعي من انتشار الخطاب الشعبوي، وسهّلت وصوله إلى الجماهير الواسعة، ما أتاح للسياسيين اليمينيين مخاطبة الأفراد مباشرة، وإثارة المشاعر وتجييشها، حول قضايا الهوية والانتماء والوطنية الشوفينية.
تُحيل عودة دونالد ترامب بالتالي إلى حزمة أفكار سياسية واجتماعية يمينية مُثيرة للجدل، كهيمنة اليمين على السلطة في دول غربية عدّة، يُحتمل أنْ تكون لها تأثيرات عميقة على الثقافة والفن في العالم، حيث تُصبح الصناعة الثقافية والفنية أكثر تفاعلاً وتعقيباً على القضايا السياسية والاجتماعية.
أتوقّع أنْ نرى زيادة في إنتاج الأعمال الفنية ذات الطابع السياسي. كما شهدت الفترة الأولى لترامب، يُحتمل أنْ تُعالج الفنون، خاصة السينما، قضايا الهجرة والعدالة الاجتماعية والبيئة والنظام العالمي والحريات الفردية، وردود الفعل على الشعبوية. كما يُمكن أنْ تشهد بعض القطاعات الفنية عودة إلى أساليب التعبير الاحتجاجي المباشر، كالجداريات وفنّ الشوارع وغيرهما، التي تحمل رسائل ضدّ التوجّهات السياسية اليمينية الراديكالية.
مع سيطرة اليمين على السلطة، تتصاعد الرقابة والتضييق على بعض التعبيرات الفنية، أو على الأقل لا يعود الدفاع عن حرية التعبير والإبداع من أولويات الإدارة الأميركية. لذا، سيلجأ فنانون عديدون في الولايات المتحدة وخارجها إلى وسائل بديلة، كالإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، لإيصال أصواتهم وجعلها مسموعة، ما يخلق مساحة جديدة للثقافة البديلة والأصوات المستقلّة.
في المجمل، يجب أنْ يكون الفن، في حقب سياسية كهذه، تطغى فيها اليمينية، أجرأ في طرح القضايا، لمواجهة كلّ السياسات الشعبوية، ولتغدو الساحة الثقافية مجالاً خصباً للحوار حول المبادئ الإنسانية والحريات.
محمد بكريم
"كم سنة يُمكن أنْ يعيش بعض الناس
قبل أنْ يُسمَح لهم بأنْ يكونوا أحراراً؟"
بشكل بديهي، قفز إلى مخيّلتي مونتاج لصُور المدينة الإسبانية فالنسيا، التي ضربتها فيضانات غير مسبوقة، وصُور عودة البطل الخارق لليبرالية الجديدة المتوحّشة دونالد ترامب، العائد الأبدي، إلى ولاية ثانية. مونتاج ينتمي إلى أجواء قصّة رعب، بحكم أنّ علاقة وثيقة تجمع بين اللقطتين. فتقلّبات المناخ نتيجة لتقلّبات أخرى مَسّت العلاقات الاجتماعية في عمق. ربما تفوّق هذا البطل الخارق في كلّ فئات التقلّبات الاجتماعية. لكنّ القاعدة الوحيدة التي تشكّل عقيدته تتمثّل بمعجم السلطة والربح.
قيل كثيراً إنّ السينما استعارة لأميركا. كتّاب السيناريو في هوليوود يتغذّون من الظواهر الاجتماعية، وسيناريوهاتهم تغذّي بدورها المخيلة الأميركية، لا سيما مع شخصية العائد. يُمكن لعائدٍ أنْ يخفي آخر: من الزومبي المتعطّش إلى الدماء، إلى الجوكر المقتصّ. في مواجهة الكارثة المتوقّعة، لا تزال الرغبة حيّة في أميركا، لأنّ أميركا متعدّدة الصيغ.
في الواقع، أنا ممزّق بين خيارين وبين نسختين من سيناريو يجب أنْ يُكتب. على خطى غرامشي، أودّ القول إنّ تفاؤل الإرادة يسمح لنا الاعتقاد بأنّ هذه الموجة المحافظة يُمكن أنْ توسّع مجال المقاومة، وتعيد الاعتبار إلى التفكير النقدي وروح الالتزام، من جهة؛ ومن جهة أخرى، يدفعنا تشاؤم العقل إلى تصوّر الأسوأ.
كتابات المجابهة والمقاومة تغذّي التفاؤل، ككتاب "لم يعد يكفي أنْ نقول لا" للمفكّرة الأميركية الشمالية نعومي كلاين (كندية وأميركية في آنٍ واحد). مُؤلَّفٌ ملتزم مكتوب عام 2017، وعنوانه الفرعي صريح: "ضد استراتيجية الصدمة التي يتبعها ترامب". أُلّف الكتاب في خضمّ اللحظة، تحت وقع خيبة الأمل التي أعقبت انتخاب ترامب لأوّل مرة. يُمكن إعادة قراءته اليوم في مواجهة هذه النسخة الرديئة التي تلوح في الأفق.
أعيد قراءته للتفكير في أسباب هذا الانتصار الجديد. هناك تفسيرات عدّة. ما الذي يجعل المجتمع الأميركي يميل مرة أخرى إلى الشعبوية: الأزمة؟ فقدان البوصلة؟ بمجرد إعلان النتائج، عدت إلى فيلمٍ يبدو لي أنّه يُقدّم خلاصة هذه الفوضى التي تسري بين حين وآخر في المجتمع الأميركي: "نومادلاند" (2020) لكلُووي جاو. يكمن تفسير الهزيمة بين ثنايا هذه الدراما.
هذه العودة أبعد ما تكون عن كونها انحرافاً. هذا الانتصار الجديد ليس "مفاجأة" في نهاية المطاف، بل نتيجة منطقية لتوجّهات تفشّت في الحقل السياسي، وتسري في الحقل الاجتماعي برمّته.
أتّفق مع نعومي كلاين على إصرارها، قبل كلّ شيءٍ، على العوامل الثقافية التي تُفسّر ظاهرة ترامب. فوزه نتيجة استراتيجية تُعدّ بمثابة ثمرة لثقافةٍ مهيمنة. ترامب تسويقٌ مدمج، كما نقول ذلك عن مُنتج ما. إنّه نتاج خالص للرأسمالية وصناعة الترفيه، ومُهتمّ قبل كل شيءٍ بتحقيق ذاته وشهرته، وبالحفاظ على ثروته. في وقت تصاعد الخطاب القائم على الهوية والانكفاء على الذات، خرجت أميركا بنسختها الخاصة من هذه الظاهرة.
ماذا يمكننا أنْ نفعل حيال ذلك؟ تُصرّ كلاين على أنّ "قول لا للأفكار السلبية والأشخاص السيئين لم يعد يكفي ببساطة". يجب أنْ تقترن الـ"لا" الحازمة بـ"نعم" شُجاعة. نعم التي تفتح الآفاق. نعم الآسرة والمُعبِّئة. نعم التي تدفعنا إلى أنْ نناضل من أجل عالم أفضل.
في وقت أول انتصار/هزيمة، كانت هوليوود في الصفوف الأمامية، عبر المشهد الرمزي لميريل ستريب في حفلة توزيع جوائز "غولدن غلوب". حينها، ندّدت النجمة الأميركية بتجاوزات الحكومة الجديدة في خطاب لا يُنسى، مُشبعٍ بالإنسانية. أقتبس مقطعاً منه: "لا زلت لا أصدّق ذلك، لأنّنا لسنا بصدد سينما. إنّها الحياة الحقيقية. إنّ غريزة الإهانة التي تُمارَس على الملأ، من قِبَل شخص ذي نفوذ، لها تأثير على حياة الجميع لأنّها بمثابة إعطاء إذنٍ للآخرين لفعل الشيء نفسه. فعدم الاحترام يولّد عدم الاحترام، والعنف يولّد العنف". إنّها صورة راقية وخطاب هادئ وذكي لا يزال مُناسباً اليوم أكثر من أي وقت مضى، ما يجعل هوليوود جزيرة للمقاومة.
#لنقاوم، آملين أنْ تمرّ السنوات الأربع سريعاً، وألاّ يحدث الأسوأ.
هشام العسري
في "أنْ تقتلهم بلطف (Killing Them Softly)"، هناك شخصية كوغان، التي يؤدّيها براد بيت. قاتل مأجور من المافيا كُلِّف بمهمة حَلّ مشكلة في مكان مجهول. يُختم الفيلم بخطاب عدمي لا يُصدّق، بينما يُبثّ حفل تنصيب باراك أوباما على شاشة التلفزيون. إليكم ما يقوله براد بيت بسخرية، بينما يسعى إلى تسلّم أموال قذرة عن تنفيذ جريمة قتل: "يحاول هذا الشخص (أوباما) أنْ يُقنعنا أنّنا نُكوِّن مجتمعاً موحّداً. أنا أعيش في أميركا، وفي أميركا أنت وحدك. أميركا ليست بلداً، بل مجرّد "بيزنس"، إدفعْ لي الآن".
الجميع منفعلون لإعادة انتخاب دونالد ترامب، الذي صُوّر (مرة أخرى) على أنّه المسيح الدجّال، في حين أنّه الرئيس الأميركي الوحيد الذي لم يفتعل حرباً في مكان ما في العالم، لسببٍ زائف، بغية إرضاء المساهمين في المجمّع الصناعي العسكري. حتّى الرئيس المُبجّل باراك حسين أوباما اختار قتل أسامة بن لادن بدلاً من القبض عليه.
أجل. أميركا شركة تجارية، ودونالد ترامب مجرّد رجل أعمال متبجّح وفرعون، أمضى حياته في بناء أهرامات "بونزي" والاستدانة، كي يُطلَق عليه لقب ملياردير. ننسى أنّنا نعيش في عالمٍ تحكمه "ميتا" و"أمازون" و"أبل".
قبل أسابيع، ذهبت إلى "سينما آيماكس" في الدار البيضاء، لمشاهدة "الجوكر: جنونٌ مشترك"، فوجدته، على حدّ تعبير زوجة الراحل آلان دولون: "أقلّ جمالاً مما تعتقدون، وأكثر إثارة للاهتمام مما تتصوّرون". سخر الفيلم، المُخيّب للآمال، من أولئك الذين يتّخذون من الجوكر نموذجاً يُحتذى به، بدءاً من "دارك نايت" لنولان، وما بعده، من دون فهم النطاق الأيديولوجي المُذهل لهذه الشخصية الأناركية (تحية لباكونين وكروبوتكين وعصابة رافاشول). فالفوضوي، بحكم التعريف، شخصٌ لا يحفزه سوى تخريب النظام، أيّ نظام. والجوكر، من حيث المبدأ، لا ينجح أبداً، لأنْ باتمان له بالمرصاد دائماً، لاستعادة النظام، وطمأنة المدنيّين.
بالعودة إلى "جوكر 2": وجدتُ أنّه من الفوضوية بمكان أنْ يُفكّك ما راق الناس في الفيلم الأول، ليفتح أعين مجتمع المهووسين الذين يرفضون أنْ تُمَسّ أوثانهم على دبس الغباء الذي يتخبّطون فيه، حين يخفقون في الخروج من ضيق صناعة الترفيه الأميركية. انتظر الجميع النسخة الثانية من "الجوكر"، لكنّها لم تكن كما توقّعنا في "جنون مشترك"، الذي أعاد بدل ذلك النظر في الفيلم الأول، ليُحوّله إلى مجرّد سرقة لفيلم مارتن سكورسيزي، "ملك الكوميديا"، مع اقتباسات من "سائق التاكسي".
في الواقع، "الجوكر" الثاني الحقيقي يتمثّل في عودة دونالد ترامب إلى رأس العالم الحرّ، ليُسلّينا لفترة رئاسية أخرى بتغريداته (أو تدويناته في وسائل التواصل الأخرى)، التي سيتصيّد فيها المزيد من منافسيه، ويتلاعب بكثيرين، ويسحب كلّ البُسْطِ من تحت الجميع، حتى يُبقي الأنظار على شخصه الصغير قدر المستطاع.
لكنْ، كما يقولون، كلّ قصة تُروى مرتين، أولى على شكل مأساة، وثانية كمهزلةٍ. فلنضحك، ونضحك إذاً. عاد الجوكر ليوفّر لنا الفرجة، ويعيث فساداً في كلّ شيء، بدءاً من التجارة الأميركية، بأسلوبٍ فوضوي حقيقي.