(*) في ما يتعلق بالتصوير، اشتغلتِ مع جاك بوكان، مدير التصوير نفسه الذي اعتدت العمل معه.
عملتُ مع جاك لأنّي بالكاد أستطيع أنْ أتخيّل صنع فيلمٍ من دونه. عملنا معاً فترة طويلة. ومعاً، نُكَوِّن ثنائياً: مخرج أفلام وثائقية، ومدير تصويرٍ منسجمٍ، إلى درجة أنّي لم أعد بحاجة إلى التحدث إليه قبل التصوير. نصل إلى مكان ما، فيعرف ما يجب عليه فعله.
جاك أكبر سنّاً منّي بقليل. لم يعد يريد صُنع أفلامٍ ميدانية كهذا بعد الآن. وبما أنّ كلّاً منّا يهتمّ بتمرير المشعل، فإنّ صورة فيلمي المقبل ستكون من صنع سكينة البلغيتي، التي كانت مساعدته في هذا الفيلم. يتمتّع جاك بخاصية استثنائية، يعرف بفضلها جيّداً كيف يجعل مكاناً يحكي قصّة. بالإضافة إلى أنّه صانع كادراتٍ كبير.
(*) نتحدّث كثيراً عن النقاش بين المصوّر السينمائي ومخرج الأفلام الروائية (لوحة الألوان، اختيار الإضاءة، إلخ)، قبل بدء التصوير، وقليلاً جداً عندما يتعلّق الأمر بالأفلام الوثائقية. ماذا تناقشان قبل التصوير، خاصة أنّ الأشياء التي تتحكمّان بها ليست كثيرة؟
نحن نتحكّم بأشياء كثيرة. المكان يروي قصّتك. تصوير الواقع لا يعني أيّ شيء. لديّ 10 طرقٍ لتصوير المناقشة بيننا مثلاً، وسيظلّ دائماً ما أصوّره وثائقياً، لكنّ الإطار سيُقرّر كلّ شيء: ما أضعه في الداخل، وما أتركه جانباً. ما إذا كانت اللقطة مُقرّبة، أو واسعة جداً. أين يبدأ خارج الحقل ومدّة اللقطة مهمّان للغاية أيضاً. طبعاً، عند التصوير، ننتظر أشياءً معيّنة، غالباً. مثلاً، عندما نقوم بالتقاط مناظر طبيعية، كما في "زيارة"، فإنّ أجمل اللقطات بالنسبة إليّ تلك التي تتطابق فيها السماء مع الحالة المزاجية لما نريد نقل الإحساس به. سماءٌ مُهدِّدة بالعاصفة فوق أنقاض إيليغ (أنقاض الملّاح في قرية إيليغ الجبلية ـ المحرّر)، تُشكّل إضافة هائلة للمشهد. هذه اللقطة ليست نفسها تحت سماءٍ زرقاء وصافية. لذا، عليك أنْ تكون صبوراً جدّاً، وأنْ تنتظر الضوء المناسب عندما يُتاح لك ذلك. هذا هو الفرق بين صناعة الأفلام والعمل الصحافي.
(*) بعد ذلك، هناك جدلية بين اختيارات التصوير وخيارات المونتاج. مثلاً، في بعض المشاهد، نكتشف الشخصيات بأصواتها قبل أنْ نراها، وهناك مشاهد لا نرى فيها مطلقاً من يتحدّث، كمشهد الحارسين الشابين.
نعم. أحياناً لا نراهم، لأنّي أجد أنّه مثير للاهتمام أنْ تتحدّث الأصوات عما نشاهده معاً. عندما يقول الحارسان الشقيقان في دمنات: "ها هو ضريح سيدي هارون"، أفضّل أن أُظهر سيدي هارون على أنْ أرى وجه من يقول إنّه سيدي هارون. إنّها أيضاً مسألة إحساسٍ، في الغالب. أحياناً، لا تكون لديّ أي صورة. فقط الصوت يحكم اختياري.
بالنسبة إلى هذا المشهد، كانت لديّ الصورة. لكنْ، نظراً إلى أنّه قصير، أجد من الأقوى سماع قصصهم الصغيرة تزامناً مع النظر إلى الأطلال، بدلاً من النظر إلى فمٍ يحكي القصّة.
(*) أنتِ حاضرة في الفيلم، كما في فيلمك "جدار"، بصوتك من دون أنْ نراك على الشاشة. ما هي النتائج المترتبة عن هذا الاختيار؟
إنّه اختيار يسمح لي أنْ أكون هناك حقاً، لأنّي أعتقدُ أنّ الصوت يُجسّد الحضور. لذا، يتيح لي أنْ أكون هناك، وأنْ أُظهر في الوقت نفسه ما يجب أنْ أُظهره، وكلّ ما أراه. هكذا، أضرب عصفورين بحجر واحد. في "جدار"، كان ذلك مهمّاً، لأنّنا ـ نتيجةً لذلك ـ لم نكن نعرف ما إذا كان الصوت يهودياً أم عربياً، ما شكّل مؤشّراً على تعقيد الوضع. لم يعرف الناس مع من يتحدّثون، ما أدّى إلى خلخلة قناعاتهم. هنا، كان مهمّاً أيضاً أنْ يكون صوتي حاضراً، وأنْ أتكلّم باللهجة الدارجة لي، الممزوجة بالفرنسية وبكلماتٍ من لهجات الشرق الأوسط، لأنّ المغاربة يعرفون جيّداً شخصية اليهوديّ الذي يعود ويسأل أين المقبرة. ألعب هذه الشخصية التي هي أنا، لكنْ ليستْ أنا تماماً. أنا أمثّل، في هذا الفيلم، ذاك العائد الذي يقول "أرِني". أعرفُ جيداً مكان المقبرة، لكنْ طرح السؤال يمكّنني من رؤية أشياء كثيرة.
هذا الصوت هو اليهودي العائد. من خلال الفيلم، نرى كيف يتمّ الترحيب به، وغمره بالدعوات والتبريك. هناك حارس مقبرةٍ ظلّ يُباركني 10 دقائق من دون توقّف. وضعتُ الكثير من دعائه في الفيلم، وظلّ لديّ المزيد منها عند مونتاج الصوت.
(*) الدور الذي منحتِه لأرشيف الصُور دقيق جداً، حتى أنّنا نشعر أنّه يتعلّق بإيقاع تنفّس الفيلم، نوعاً ما.
أجل. كانت قليلةً جداً. حقاً فاصلات فقط، واستدلالات سحرية إلى حدٍّ ما، لكنّها دقيقة للغاية، ودائماً في المكان المُحدّد لها. صورة تحيل إلى الحركة نفسها، أو من المكان نفسه بالضّبط، تبُثّ في الفيلم القليل من الإيقاع.
الشيء نفسه بالنسبة إلى الموسيقى، التي تكاد لا توجد في الفيلم. كان لديّ ركامٌ من الموسيقى المغربية اليهودية في جانب، وأرشيف صُورٍ يهودي مغربي في الجانب الآخر، ولم أكن أرغب فيهما. تضيف الموسيقى عاطفةً إلى العاطفة، ويُشوّش الأرشيف على الصوَر، لأننا رأيناه سابقاً عشرات المرّات. لذا، ظللت أقاومهما. في النهاية، لم أضع سوى القليل من اللمسات الصغيرة.
الفيلم شديد التقشّف على هذا المستوى. أفضّل ذلك، لأنّه، حتى مع هذا القليل، هناك أشخاص يبكون من البداية إلى النهاية عند مشاهدته، ولك أنْ تتخيّل بنفسك ما كان سيقع مع مزيدٍ من الموسيقى. يُذكّرني هذا بالأفلام التي صنعتها في فلسطين. لم أكن أرغب في أيّ موسيقى على العود. في "جدار"، هناك موسيقى جاز. تمرّر الموسيقى كليشيهات، حتى عندما تكون جميلة.
(*) المقطع الوحيد الذي يحتوي على موسيقى في "زيارة"، باستثناء جينريك النهاية، مشهد الأزقّة الفارغة، ولوحات أسماء الشوارع المُحيلة إلى الثقافة اليهودية، مع موسيقى أمينة العلوي.
نعم، القليل فقط، وآكابيلا، لأنّنا نقترب من النهاية، ولأنّنا في الرّباط، العاصمة التاريخية، ومسقط رأسي. هذا المشهد يحيل إلى الأندلس، بالنسبة إليّ، حين يرافقه هذا الصوت.
(*) في الختام، هناك المشهد الرائع من كنيس تاوريرت، الذي تحول إلى سينما أغلقت أبوابها لعقودٍ، قبل أن تقومي بتكسير أقفالها. هل كان اللقاء مع هذا الفضاء محض صدفة؟
نعم. أحمد، الذي رافقنا في المشهد، رجلٌ طيّب جداً، يمتلك مطبعة في تاوريرت، ويحبّ تراث مدينته. أرشدَنا طوال اليوم، وأيضاً إلى المقبرة. دلّنا على كلّ شيء، ثمّ صوّرت مقابلة جميلة معه. في نهاية اليوم، ناداه أحدهم: "ألم تدلّها على السينما؟"، فتذكّر الأمر. قال لي: "أتعلمين أنّ لدينا سينما مهجورة اليوم، كانت من قبل كنيساً يهودياً؟"، فصِحتُ: "ولا تُريني ذلك؟". أجاب: "إنّها ليست جميلة، كما أنّي نسيت الأمر تماماً". ذهبنا لرؤيتها، فوجدنا الأبواب مقفلة، ولم يكن هناك أيّ مفتاح. أصررتُ على الدخول، فركض أطفالٌ في كلّ الأنحاء حتى عثروا على ابن المالك، الذي حضر وقال لنا: "لم أعد أعرف ما في داخلها. لم ندخل منذ 15 عاماً، والمفتاح ليس في حوزتي". قلتُ له: "سيّدي، هل تسمح لي أنْ أبتاع لك قفلاً جديداً، وتدعنا نكسّر هذا القفل للدخول؟". فأجاب: "لا مشكلة". اشترينا قفلاً جديداً، وقمنا بتصوير أحمد وهو يكسر قفل ذاكرةِ مراهقته، لأنّ هذا هو المكان الذي شاهد فيه فيلماً في السينما للمرّة الأولى. أعاد اكتشاف الأماكن أمام أعيننا، بعد عقودٍ من الغياب. قاعة السينما هاته كانت معبدي الخاص في الفيلم.
(*) حركة تكسير القفل دالّة للغاية. صالة السينما تشكّل نوعاً من التبئير المرآوي في نهاية الفيلم، لأنّ المتفرّجين يجدون أنفسهم في قاعة مظلمة، ينظرون إلى صُور كنيسٍ قديمٍ، تحوّل إلى قاعة مظلمة ومهجورة.
علاوة على ذلك، عندما صوّرنا المشهد، قلتُ لنفسي فوراً إنّه سيكون المشهد النهائي. أشعلتُ شمعةً هناك، وأنا أعلم جيّداً أنّي عثرتُ على نهاية فيلمي.
(*) نرى الشمعة مُضاءةً مع مقتطفٍ ختامي من مؤلّفٍ لإدمون عمران المالح. متى صادفتِ هذا الاقتباس؟
هذا مُقتطف من نصّ مشهور له بعنوان "المجرى الثابت"، يحكي فيه عن آخر مغربي من يهود أصيلة دُفن في المقبرة اليهودية هناك.
(*) يقول فيه شيئاً مُهمّاً يحضر في طرح الفيلم، حين يُلمّح أشخاصٌ عديدون إلى تخيّل تاريخٍ بديلٍ لما كان سيكون عليه المغرب لو لم يهجره يهوده.
يقول: "رحلوا والله وحده يعلم لماذا". هناك تفسيرات كثيرة، لكنّ الأمر يظلّ لغزاً.
(*) يرى بونويل أنّ الغموض جوهر السينما. أعتقد أنّ الاحتفاظ بهذا في النهاية مهمٌّ، كأنّك تقولين إنّ الفيلم الوثائقي يهتمّ فقط بطرح الأسئلة الدالّة، وليس بالإجابة عنها.
رؤيتكَ هذه صائبة. يسألني الجميع: "لكنْ، لماذا رحلوا؟"، ولا أعلم الإجابة. أعرفها ولا أعرفها. لا توجد إجابةٌ شافية.
(*) كيف تمّ تلقّي "زيارة" عند عرضه في المغرب؟
لم يحطّم أرقام المتابعة على "القناة الثانية". لكنْ، قيل لي إن 1.8 مليون متفرّج شاهدوه. هذا عددٌ ضخم، وشيءٌ رائع. كانت له أصداء كثيرة في الصحافة أيضاً، وتمّ تنظيم "عرض ما قبل أول"، شهد حضوراً نوعياً لأشخاص أُعجبوا به. كان العرض مؤثّراً بالنسبة إلى كثيرين. ما يقوم به رضا بنجلون (المشرف على مديرية البرامج الإخبارية والوثائقية في "القناة المغربية الثانية" ـ المحرّر) مُهمّ جداً. لا يتوفّر على إمكانات كثيرة، ولديه إكراهات كثيرة، لكنّه بصدد منح ظروف النمو لوسيلة تعبيرٍ خلّاقة، ما يسمح لمبدعين أنْ يحكوا عن بلدهم بأنفسهم.
في الفترة الأخيرة، اعتدتُ أنْ أنصح أصدقائي بمشاهدة التلفزيون المغربي، على الأقل في أمسيات الأحد، لأنّ المغرب يُوثّق له في هذا الموعد. كلّ ما يغيب في وسائل الإعلام الأخرى تجده هناك، باستثناء بعض الموضوعات الحسّاسة. مغرب الناس البسطاء، وكيف يعيشون، حاضرٌ هناك فعلاً.
(*) بالتأكيد. هذا مهمٌّ للغاية، لأنْ أغلب وسائل الإعلام السائدة تعتقد أنْ التوغّل في الجغرافيا كافٍ لالتقاط المغرب العميق، بينما المسألة تتعلّق بالنظرة.
قليلاً ما ننظر فعلاً إلى الناس. في المغرب، تنطوي مسألة الطبقات الاجتماعية على تجلّيات رهيبة، ولا يتمّ النظر إلى المنتمين إلى الطبقة الأدنى في عيونهم. هذه مهمّة الفيلم الوثائقي، أنْ يجعلك ترى ما اعتدتَ أن تمرّ أمامه من دون أن تنظر إليه.