رغم الفوضى البصرية التي تتميّز بها الصورة السينمائية عن نظيرتها الفوتوغرافية، هناك قانون خفيّ يُنظِّم هذه الفوضى، ويجعلها خلاّقة ومُرتّبة، يكمن في أنّ أيّ فيلمٍ سينمائيّ لا يعمل على صنع صورة فنية مُبتكرة، وعلى تخييلها في قالب سينمائيّ، تغدو صُوَره أكثر اتصالاً بالواقع الذي تنتمي إليه، فلا يُعوَّل عليها.
عنصر إنتاج الصورة، الواقعية أو الخيالية، يجعل الفيلم عملاً فنياً، تذوب فيه عناصر الحكاية وجمالياتها، وتدبّ في شخصياته حياة جديدة، على مستويي التخييل والتبصّر.
لكنّ المُخرج الهندي سيدهارث أناند (1983) حرّض على التفكير في ما إذا كانت عملية تحويل فيلمٍ من ثقافة سينمائية إلى أخرى، لها تقاليدها السينمائية، من دون وضع أيّ لمسة فنية، تمنح الفيلم الجديد صبغة جمالية وحياة ثانية، تجعله يغوص في مُتخيّل ثقافة الآخر ووجدانه. ما فعله أناند مرتبطٌ بتخلّيه عن عنصرٍ مُهمٍ كهذا في صنعة "بانغ بانغ" (2014) مثلاً، وبحرصه على الغوص في حكايةٍ، كُتبت وصُوِّرت وأُخرجت سابقاً بعنوان Knight And Day، الذي أخرجه جيمس مانغولد عام 2010 (تمثيل توم كروز وكاميرون دياز)، فأعاد تدويره، حكايةً وإخراجاً، بأسلوب هندي، مازجاً فيه بين الكوميديا والرومانسية والأكشن.
أمرٌ لا يرتبط فقط بفيلم أناند، إذْ أضحت العملية صناعة رائجة في الهند، مع لجوء مخرجين كثيرين غير معروفين إلى إعادة محاكاة الإنتاج السينمائي الغربي، وتقديمه في طبقٍ هنديّ سطحيّ وباهت، لا يحتكم في ماهيته إلى أيّ ذرة إبداعٍ أو إنتاجٍ أو ابتكار، باستثناء لغة حوارٍ هندي/ إنكليزي، وأغانٍ ورقصات، تُعتَبر مُكوّنات جمالية وفنية في السينما الهندية. بالتالي، لا يُمكن التفلّت من سلطة هذا في أيّ فيلم هنديّ مُنجز قديماً أو حديثاً.
هذا النوع من الأفلام يُحقِّق نجاحاً جماهيرياً كاسحاً، بحيث أنّ غالبية أفلام المُغامرة والرومانسية تنجح في المجتمع الهندي. كما أنّ هذا التدوير السينمائي لا يُسبِّب للمُخرج الأميركي أي مشكلة، طالما أنّه سيُحقّق أرباحاً طائلة بفضل إعادة إنتاج فيلمه بطريقة هندية، لأهميّة الإنتاج السينمائي البوليوودي، الذي يتفوّق كثيراً على الإنتاج الهوليوودي كَمّاً، فيجد المُخرج الأميركي فرصة أخرى لتسويق فيلمٍ سينمائيّ له، اجتُثَّت جذوره الفنية والجمالية، وأصبح مُجرّد "سيمولاكر" عن النسخة الأصل.
قصّة الفيلم بسيطة وهوليووودية بامتياز: عميلٌ أميركي سرّي، يشتغل لدى وكالة أمنية مُهمّتها حماية الأشياء الثمينة، التي يُهدِّد فقدانها أمن البلد. صدفةً، يلتقي العميل (كروز) شابّة (دياز) في المطار، فيستغلّها لتهريب بطارية، تُعتَبر أكبر مصدر لإنتاج الطاقة في العالم، وعليه بالتالي حمايتها من السرقة. تُغرم الشابّة بالعميل، وتنجرف الحكاية إلى مُطاردة وأكشن، بطريقة كوميدية هزلية، تُحاول إظهار ارتباك الشابّة. مع مرور الوقت، يُصبحان معاً مُطارَدين من الوكالة نفسها، بسبب عميلٍ سريّ فاسدٍ، يُحاول سرقة البطارية وبيعها لأحد زعماء المافيا في إسبانيا، فيتّهم العميل ميلر، ويُروِّج لهروبه بالبطارية مستغلاّ أداء وظيفته في الوكالة.
بهذه الطريقة الهوليوودية، تتعدّد خيوط الحكاية لدى جيمس مانغولد، الذي يجعلها تتلاشى في سياق الفيلم أمام صورة تعمل على اكتساح جماليّات الفيلم، عن طريق فتنة المغامرة وبلاغة الحركة، والارتكان على صُور أيقونيّة عن مفهوم البطل الهوليوودي، ومدى قدرته على التفلّت من مواجع الذات، وعنف الموت، والقهر النفسي.
استُقبِل الفيلم بنسخته الأميركية بتواضعٍ، وتعرّض لنقدٍ لاذعٍ بسبب هشاشة السيناريو وضعف المُؤثّرات البصرية، التي حاول المُخرج التكتّم عنها بالمُبالغة في الحركة والمطاردة والإثارة. أمّا النسخة الهندية (بانغ بانغ)، فاكتسحت شُبّاك التذاكر عام 2014، جاعلة سيدهارث أناند مُخرجاً مشهوراً في بلده، رغم الابتذال الفني والجمالي، وافتقار الفيلم لأيّ لمسة سينمائية هندية جديدة، بعيداً عن الممثلين ورقصاتهم وأغانيهم.
هذا دفعه إلى مُعاودة التجربة مجدّداً هذا العام، مع "رامبو"، محقِّقاً نسخة هندية بالعنوان نفسه. لكنْ، ما الجديد الذي يُضيفه سيدهارث أناند على "رامبو"، غير أبعاد الحركة والقتل، علماً أنّ فيلم سيلفستر ستالون يتجاوز ضمنياً ذلك، إذْ يُشبه سرديّة سياسية تنبّأت بانتصار البلاهة، وفداحة عالمٍ مأهول بالخراب والموت والتهجير؟ الاختيار لم يكُن موفّقاً، بسبب اقتصاره على نموذج غربي يُعدّ مرجعاً في تاريخ السينما الأميركية الثائرة على مستوى أفكارٍ تُدين سياسة الحرب والمأساة البشعة التي عرفها العالم غداة الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945).
عادةً، يُعاد إنتاج فيلمٍ سينمائيّ أميركي أو هندي من الكيان السينمائي نفسه، من دون تحويل ثقافته وصُوَره وسياقاته التاريخية وتقاليده الفنية إلى ثقافة أخرى، بالأنماط نفسها للصورة والحكاية، من دون أيّ عملية إبداعٍ وتخييلٍ تُشكّل في الصناعتين خرقاً جمالياً للفيلم الأول.
حقّق نسخة هندية من فيلم "رامبو" الشهير من دون إضافة تُذكر
في الحالة الأولى، هناك مخرجون عديدون في أميركا يعيدون تحديث نسخٍ أصلية لأفلامٍ عدّة مُصُوّرة قديماً، إما لأنّها مُعرَّضة للتلاشي والتآكل والضياع في الأرشيف الأميركي، أو لأنّ جمالياتها وما فيها من ذكاء سينمائيّ باكر تجعلها مرجعاً مُهمّاً في تاريخ السينما الأميركية.
لذا، يُعاد الاشتغال عليها، علماً أنّ هذه العملية، التي تتّم من داخل المُنجز الفيلموغرافي الأميركي، لم تُثمر، بسبب النقل الميكانيكي، الذي تخضع له صُوَر الفيلم، ولأنّها تظلّ حبيسة "منزع تجديدي" لا تتجاوزه، مُحاولة الخروج بالنسخة الأصل من براثن النسيان وتحديثها وتقديمها في شكلٍ سينمائيّ معاصر، من حيث الشخصيات وتقنيات التصوير وشعربة الفضاء وتناغمه مع مفهوم الزمن الذي ينتمي إليه المجتمع الأميركي الآن.
أما الحالة الثانية، التي يُمثّلها سيدهارث أناند في "بانغ بانغ" و"رامبو"، فتغريبٌ للنُسخة الأصل، وتهجيرٌ لتراثٍ سينمائيّ غير مألوفٍ في الهند، من دون أيّ إبداعٍ، أو حتّى إعادة تخييل للحكاية نفسها في قوالب فنية مُتنوّعة. إنّه، بطريقة ما، تلصّص سينمائيّ، يُحاول تشذيب الفيلم وإعطاءَه صبغة هندية، مُستغلاً الحكايات والقصص وجاهزية السيناريو وأطوار الفيلم، منذ مرحلة ما قبل الإنتاج، مروراً بعرضه في الصالات السينمائية، ووصولاً إلى تأثيره في المُشاهد الغربي، وتموقعه في الذاكرة الرمزية للمُتخيّل السينمائيّ العالمي، بسبب اختلاف المراجع الفكرية والتاريخيّة التي يستند إليها مفهوم "الفرجة السينمائية" في أميركا والهند، خاصّة أنّ بعض المَشاهد ـ التي تتميّز بقوّة الحركة، وتبدو مثيرة وجذّابة للمُشاهد الأميركي ـ تُصبح لدى المُشاهد الهندي، استناداً إلى تراثه البصري، عنصراً مُضحكاً.