سنابل زُحل: لوحات تستوطن أرواحها في دمشق

16 أكتوبر 2022
للمرأة حضور بارز في اللوحات (من المعرض)
+ الخط -

"كان يوماً ماطراً وبارداً، وكنتُ أمشي في حي بلاط الإسطنبولي القريب من منزلي، وإذ بي أمام طفلة سوريّة لم تبلغ السادسة، جالسة على الأرض بمعطفها الأحمر، وتبيع رسوماتها للمارّة". هذا المشهد هو الذي دفع الفنانة السورية تيما منصور إلى إقامة معرضها الفني الأول في إسطنبول، بعدما كانت تستبعد هذه الفكرة، رغم مزاولتها فنون الرسم التجريدي والتصويري منذ أكثر من 25 عاماً.
وقالت منصور، لـ"العربي الجديد": "على الرغم من أنني لا أميل كثيراً إلى إقامة المعارض الخاصة وأضواء الكاميرات، لأنني أعتبر أنّ كل ما أنجزه من لوحات عبارة عن سلسلة من التجارب، فإن الرّسامة الصغيرة ذات الأصابع الغضّة شكّلت حافزاً قويّاً لي لإقامة معرضي سنابل زحل. فهي، ورغم ظروفها القاهرة، أحبّت أن توصل للعالم كلمة عبر رسوماتها البريئة عن وطنها سورية. عندما رأيتها قلت في نفسي: أليس من الحري بي، كفنّانة متخصّصة، أن أُوصل ما يحدث في بلدي، علّني أقول شيئاً لهذا العالم، خاصّة أنّ الفن لا يمكن أن ينتهي وليس له أي حدود؟".
المعرض الذي أقيم في منطقة سيركجي، من 10 إلى 28 سبتمبر/ أيلول الماضي، يتطرق إلى الحرب في سورية، ويحاول لفت الانتباه إلى معاناة أهلها. ولعلّ أكثر ما يلفت النّظر في اللوحات المعروضة هو ريشة منصور المفعمة بالألوان والطاقة. وأوضحت منصور قائلة: "كلّ الألوان تفرح، وكلّ الألوان تحزن. الأزرق يفرح ويحزن، والأبيض كذلك. دور الفنّان هو اللّعب بالألوان وتطويعها على هواه، وأمام اللوحة مُجاز له استخدام كل ألوانه، وأنا بدوري أحاول إيصال رؤيتي الفنيّة الخاصّة عبر أعمالي، بكل ما تحمله من جماليّات بصريّة للمُتلقّي".
يتداخل الألم والأمل في أعمال منصور، فبينما يبدو وجه الحرب الدامي واضحاً في لوحاتها، لكنها تحمل أيضاً بصيص الأمل والحريّة، كما تبدو مرارة الغربة طاغية، وتبرز خلالها شخوص سوريّة مجسدة في النساء مرّةً، وفي الأطفال المٌهجّرين مرّة أخرى، وهؤلاء هم الأكثر تضرراً من الحرب، في رأيها؛ "البعض جائع، والبعض فقد أبويه، وفي ذاكرتهم كمّ مخيف من المشاهد القاسية والألم الذي لا يُوصف".
رسائل المعرض كثيرة، لأن منصور "أرادت نقل ما كان في روحها، عبر لوحات تحمل الحب والسّلام لكل بلدان العالم، وإدراك أنّ السوريين أتوا إلى كل بلدان العالم مُهجّرين وفي حقائبهم سنابل قمح".
رئيسة صالة مؤسسة الفنون المستقلة هوليا يازجي، أشارت على هامش افتتاح المعرض إلى أنها فتحت بابها للفنانين من جميع الجنسيات، وأضافت: "عندما التقيت تيما منصور كانت تريد عرض لوحاتها، لكن لم يكن لديها ما يكفي من العمل لإقامة معرض فردي. عملت ليلاً ونهاراً، وأنتجت الكثير خلال ثلاثة أشهر، وعكست الآلام الكبيرة التي مرّت بها في بلدها على قماش لوحاتها واحدة تلو الأخرى. الرسم هو مقاومة للحروب ودعوة لنشر الجمال، من قبل الناس الذين تنبض قلوبهم بالفن، ضد شرور وسلبيات العالم".
يوجّه المعرض دعوة لنبذ العنصرية ضد السوريين التي باتت تتصاعد في بعض دول العالم، وتحديداً في تركيا. إذ رسمت الفنانة السوريّة مجموعة من اللّوحات تنوّعت عناوينها بين "ثلاثة من أجل السلام"، و"حزن الشاعر"، و"صمت القصيدة"، و"رنين آلاف الأجراس"، و"طفولة البحر". وأشارت منصور إلى أنّ تفاعل الجمهور التّركي كان حسناً، وأنّ من قدموا إلى المعرض كانوا متعاطفين مع القضيّة السورية كما لو أنّها قضيّتهم. منصور مؤمنة بأن الفن "قادر اليوم على تغيير وجهة نظر معينة أو أحكام مُسبقة، لأنّه لا يقل شأناً عن الكلمة، كما أنّه من أهم أسباب التّكوين الحضاري للمجتمعات على مرّ العصور، لما يحمله من ديمومة وبهجة ونقاء وطهارة وعفوية".
وللمرأة السّورية حضورٌ دائم في أعمال منصور، وعن ذلك قالت: "المرأة في لوحاتي عشتار ربّة الخصب والحبّ والجمال. المرأة دمشق الياسمينة البيضاء. المرأة عروس العرائس على رأسها هلال عشتار وفي عينيها الفخر والاعتزاز. إنها الملكة ملهمة الشعراء والأدباء والفنانين، وهي فراشة في المجرّة وشمس ذات وشم. هي حبُّ في أعماق الأرض، وشجرة ذات ألم أبيض متطاول".
واستذكرت منصور الذاكرة الطفوليّة البعيدة في مرتفعات الجولان السّوري المحتلّ حيث تعود أصولها، وروت: "خرج أهلي من الجولان مُجبرين في وقت مبكّر من طفولتي بسبب الحرب الإسرائيلية عام 1967، وأخبروني بأنني وصلت إلى بيت جدي في العاصمة دمشق عندما كان عمري سنتين بفردة حذاء واحدة"، وأضافت: "لم أعكس الجولان في لوحاتي لأنّني لا أتذكّر منها شيئاً. كل ما أعرفه هو ما حدّثني به والديّ عن جمالها، ولكنني أعي جيّداَ في وجداني أنّ لي وطناً هناك".

إعلام وحريات
التحديثات الحية

وعند الحديث عن المدن التي أثّرت بالفنّانة السورية، حضرت إسطنبول التي تقيم فيها منذ أربع سنوات، وقالت عنها: "أُحبها كما أحب كلّ المدن التي مررت بها، ورسمت لها لوحة عنوانها أنشودتان، المدينة لم تؤثّر على فنّي، وإنّما الغربة كان لها عميق الأثر على حياتي وأعمالي". أما دمشق، حيث ترعرعت منصور وتشبّعت بفنّ الرسم على يد أهم الفنانين التشكيليين مثل نزار صبور وياسر حمود ونذير نصر الله، فقد "رسمتها بأجمل حلّة كما تركتها ياسمينة بيضاء"، وكان لها نصيبٌ كبيرٌ من لوحاتها، وأضافت "الغربة لم تفصلني عن وطني. كلّما قرعت باب بيتي في إسطنبول، أتذكّر أنني لست موجودة فيه لأنّ روحي بقيت في الشّام. ألملم أشلائي وحيدةً في مرسمي، لعلّني أجدني".

المساهمون