سلسلة Voir: السينما بوصفها حدثاً يشهده العالم

15 ديسمبر 2021
مارتن سكورسيزي كواحد من القلائل الذين تمكنوا من نسف متخيلنا عن العنف (وورنر بروس/Getty)
+ الخط -

في عام 2019، بدأت منصّة "نتفليكس" ببث السلسلة الوثائقية The Movies That Made Us، التي بلغ عدد مواسمها إلى الآن ثلاثة. نالت السلسلة إعجاب كثيرين، كونها تحدثنا عن أسلوب صناعة الأفلام الأشهر في هوليوود. بصورة أدق، كلاسيكيات معاصرة دخلت الثقافة الشعبية منذ السبعينيات؛ إذ نتعرف إلى حكايات الإنتاج والعلاقة مع المخرجين والكتاب، والإشكاليات التي حدثت وراء الكواليس، تلك التي يهدّد بعضها الفيلم بأكمله، لكنها لا تظهر على الشاشة، حين نشاهد مثلاً Die hard، أو Aliens ، فالسلسلة تحكي لنا عن كل فيلم بوصفه عالماً متفرداً، من دون مقاربة فلسفية أو قراءة نقديّة. لا نقصد هنا التقليل من قيمة السلسلة، لكنها لا تشبع الفضول السينفيلي، ولا تقرأ السينما بوصفها أداة للتفكير والانتقاد.
لكن، وبصورة مختلفة عن السلسلة السابقة، بثت نتفليكس، بالتعاون مع المخرج ديفيد فينشر، سلسلة مقالات بصرية تحمل عنوان Voir، الكلمة الفرنسية التي تعني "شاهد" أو "رأى"، التي نتعرف فيها على السينما من وجهة نظر مثيرة للاهتمام، خصوصاً أنّ الوسيط المستخدم، أي "المقالة البصرية"، التي لا يتجاوز طول الواحدة منها الـ20 دقيقة، تمتلك خصوصية جذابة، هي تورط أنا الناقد وتاريخه الشخصي في عملية القراءة، كما تنظر إلى السينما كـ"كلٍّ" تخاطب فيه الأفلام بعضها بعضاً، لنرى أنفسنا أمام دفق من المفاهيم التي تتحرر من إطار الفيلم وتدخل في السينما، بوصفها شكلاً من أشكال التاريخ و"التمثيل" Representation، ويمكن قراءة جمالياتها كنوع فني يمتلك أبجديته وشيفراتها الخاصة، التي تخاطب القطاعات الفلسفية والفنية الأخرى.


تبدأ السلسلة بمقال يحمل اسم "صيف القرش"، في إحالة إلى فيلم Jaws الصادر عام 1975، من إخراج ستيفن سبيلبيرغ. اللافت للانتباه في هذه المقالة/الحلقة، هو التعامل مع الفيلم كحدث في العالم، لحظة عرض الفيلم والشروط المحيطة به والعلاقة مع الجمهور تظهر بشكل واضح. وهذا بالضبط ما تعنيه "تجربة السينما"، القاعة المظلمة والأمان الذي توفره، والانغماس الكلي في ما نشاهده من "صور متحركة"، يحولها إلى تجربة تغيير الفرد وإدراكه للعالم ولنفسه، وهذا المقصود بحدث في العالم، أي أن الفيلم ذو قيمة أدائيّة، يغير من الجمهور ومن العالم من حوله، فبعد Jaws لم يعد الشاطئ آمناً، وأصبح متخيل القرش حاضراً لدى الجميع.
هكذا، تحول القرش إلى رمز للعنف، وأصبحت صالة السينما ملاذاً آمناً للبعض، هرباً من "العنف" المتوقع في الخارج... كل هذه التحولات والعناصر التي تقع خارج الصالة، تتدخل في أسلوب "مشاهدة" الفيلم وكيفية فهم شيفراته، فقد يكون القرش أباً مُعنفاً، أو مؤسسة تستهلك العاملين فيها، أو وحشاً ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض من زاوية في الشارع أو من أسفل السرير.
يتحول كل فيلم في الحلقة إلى عتبة لقراءة الأفلام الأخرى، لنكتشف العلاقة بين الحكايات وكيفية تجليها بصرياً، وهذا ما نتلمسه حين نشاهد "جماليات الانتقام"، الموضوعة التي لم تفارق تاريخ الفن، لكنها في السينما تكتسب شكلاً آخر؛ إذ نتعرف على خصائص المنتقم. والأهم، علاقة العنف الذي نشاهده على الشاشة، مع ذاك الذي نختبره في الحياة الواقعية، وكيفية تقبلنا له بأساليب مختلفة.
هنا، يظهر مارتن سكورسيزي مثلاً، بوصفه من القلائل الذين تمكنوا من نسف متخيلنا عن العنف، عبر جعله واقعياً، غير مقبول، والأهم إنسانياً، يهدد الصورة التي نمتلكها عن شخصية المُنتقم. كل هذا عبر بضع لقطات؛ إذ لا نتعاطف مع من ينتقم في أفلام سكورسيزي، كونه يتجاوز عتبة العنف المسموح به، بعكس ما نراه في أفلام تجارية مثلاً، حيث العنف استعراضي ومغفور، ولا يهدد "وجودنا"، بعكس أفلام سكورسيزي، حيث العنف يكشف عن طبيعة البشر وقدرتنا على إنتاج العنف.
نشاهد، أيضاً، مقارنة بين الوسائط البصرية، خصوصاً السينما والتلفزيون، حيث لعبت شروط العرض دوراً في تغيير الحكايات وأسلوب المعالجة البصرية، وخلقت المنافسة بين هذين القطاعين، تغيرات تتجاوز أسلوب العرض، نحو شكل اللقطات وتدفق الحكاية، فكل وسيط يحتفي بجماليات مختلفة، ويوظف اللغة البصرية بأسلوب مغاير.
ففي السينما، هناك اختزال للحكاية مع توظيف أكبر للغة البصرية، في حين أن التلفاز أكرم، لكنه أقدر على الاستفادة من خصائص الصورة نفسها وتوظيفها في الحكاية، إلى أن جاء مسلسل The Sopranos، الذي أنتجته شبكة HBO، والذي غير قواعد اللعب بأكملها، وأسس لشكل تلفزيوني كامل، نسمع عنه بالذات في مقابلة سابقة أجراها بطل مسلسل Breaking bad، براين كرانستون، الذي يرى أنه لولا The Sopranos، لما وُجد Breaking bad؛ فالأوّل عبد الطريق وفتح إطار "الصورة" ومساحات الشاشة التلفزيونية وأسلوب عرض الحكايات ضمنها أمام شخصية مثل والتر وايت.

سينما ودراما
التحديثات الحية

المقارنة السابقة بالذات، تكشف لنا عن علاقتنا مع المتخيل وكيفية "فهمنا" له. هل نريد تجربة سينمائية تمتد لساعتين تنتهي بإشباع عاطفي، أو تجربة قد تمتد لسنوات أمام شاشة التلفاز نعايش فيها الشخصيات والأحداث باستفاضة؟ لا إجابة عن هذا السؤال كون كل وسيط يمتلك ما يميزه، وما يكسبه قدرته على التأثير، لكنّ الأهم، هو أنّ الحكاية على الشاشة نفسها تكتشف الجديد وتبيح لمن سيأتي لاحقاً "اللعب" ضمن المساحات الجديدة، الأمر يتشابه في كلّ الفنون... ألم يفتتح فرانز كافكا الباب لـ "جماليات البيروقراطيّة"؟ الأمر الذي أسس له قبل هيمنة الحداثة وسلطة المكاتب.

تستضيف السلسلة في الحلقة التي تحمل عنوان "ثنائية الجاذبية" فناني رسوم متحركة، في محاولة للإجابة عن سؤال الجاذبية؛ أي كيف يتم تصميم الشخصيات كي تصبح أكثر قرباً منا؟ حتى ولو كانت وحوشاً، كما في فيلم ديزني الشهير "الجميلة والوحش". وكيف يتم بناء النسب بين أعضائها، مع استعراض للأنماط الأكثر شهرة في تاريخ الرسوم المتحركة.

المثير هنا هو تجاهل الأنماط التي يتم عبرها اختيار البشر، وعمليات التجميل والتحسين التي يقوم بها الرجال والنساء بكثرة كي تَقَبلهم "الشاشة"، الشأن الذي اشتهرت بفضحه جاين فوندا، وكيف يتم إعادة تكوين الفك والجبهة واستدارة العينين كي تناسب هوليوود، فالتركيز على الرسوم المتحركة يرتبط بالمتخيل، من دون الإشارة إلى أن الواقعي ذاته، أي لحم المؤدي نفسه، يخضع للنحت. صحيح أن الأمر تراجع حالياً، لكن ما زالت هناك قواعد للشكل المقبول لا بد من أن تتوافر في من يرغب بالظهور على الشاشة.
تظهر أنا الناقد أو "كاتب" المقال البصري في كل واحدة من حلقات السلسلة. نحن أمام مقاربات متنوعة، تظهر فيها شخصية الناقد بوصفها تمثيلاً للجمهور باختلاف أنواعه وميوله وخصائصه، ذاك الجمهور الذي لا نسمع عن حميمية تجربته مع الفيلم عادة. وكأن في ذلك تركيزاً على واحد من أهم عناصر السينما؛ الجمهور، الذي يجلس في ظلام الصالة، لساعات أحياناً، متأملاً ما يظهر أمامه، مختبراً مشاعر وحياة كاملة فيما يرآه، وهذا المميز في هذه المقالات؛ المشاهدون جزء من تاريخ السينما، حتى لو أُهملت وجهة نظرهم من قبل النقاد والمنظرين؛ فتاريخ السينما يحوي نظرية التلقي، وليس تاريخ المشاهد الواحد.

المساهمون