سلام موسى: فيلم "المكان" سيرة حياة في جمهورية الخوف

25 سبتمبر 2022
الأحداث الأخيرة في العراق أشبه بالجحيم (من المخرج)
+ الخط -

سلام موسى مخرج وصانع أفلام عراقي مُقيم في ألمانيا. عمل مُصوّراً صحافياً أعواماً عدّة، في وكالات أجنبية ومحلية في العراق، وتابع معظم الأحداث الأمنية والاجتماعية والسياسية الحاصلة في العراق بين عامي 2013 و2019.
بعد تعرّضه لإصابةٍ أثناء عمله في الحرب ضد "داعش"، اتّجه إلى السينما، فأخرج أفلاماً قصيرة ووثائقية. بعد عام 2019، استقرّ في ألمانيا، حيث صَوَّر فيلمه "جالينا الموصل".


أثناء الحروب في العراق، خاصة مع "داعش"، كنتَ أحد المُصوّرين الذين وثّقوا هذه الحروب. ما مدى تأثير ذلك على عملك كمُصوّر سينمائي؟ وهل أثّرت أجواء الحروب على اختيارك مواضيع أفلامك؟
للحروب وأجوائها تأثيرٌ كبيرٌ على اختياري مواضيع الأفلام، إذْ منحتني فرصة صناعة أفلام، وتصويرها في ساحة الحرب، ومتابعة المتحاربين من موقع إلى آخر، والدخول إلى مناطق الخطر، مع تسجيل اللحظات الأصعب في حروب المدن، كحرب الموصل، والمطاردات التي حدثت بين قطاعات الجيش العراقي و"داعش"، لنقل صورة حيّة إلى العالم أجمع، عن بشاعة الحرب وتأثيرها على النفس البشرية.
الحياة بهذا الشكل ليست نزهة. كلّما حاولتُ أن أكتب، تتدفّق في رأسي الذكريات، فترتجف يدي، وأشعر بسقوط الزمان والمكان بالصدمة نفسها، رغم أنّي استبدلت تلك الأحداث بأحداث وذكريات جديدة. لكنّها، كلّما سرقتني، كانت قادرة على عزلي عن العالم. في تلك الليالي، كتبتُ نصّاً سينمائياً، يستمدّ تفاصيله وأحداثه من تلك الذكريات التي استلهمتُ منها، رغم كوابيسها، رسالةً إلى العالم، أحاول تقديمها كمُصوّر وإنسان.

تعرّضت لإصابة بليغة في الحرب. ما مدى تأثيرها على مستقبلك في التصوير؟
في ذلك النهار، والساعة تقترب من مغيب الشمس، والمذيع ينتهي من إذاعة نشرة أخبار انتصارات القوات العراقية، وتقدّمها على "داعش"، تتهادى عجلات السيارة على أسفلت الطريق، وتمنح معها لحظات من الهدوء. أتذكّر طعم خبز أمي، ودفء يوم الجمعة مع الأصحاب، ويتسرّب النعاس إلى جفني، ويخفت صوت المذياع، لأغفو لدقائق، تلاشت بعدها لحظات الهدوء. أسمع طنيناً في أذنيّ، وأشعر بجسدي يترنّح في الهواء. رأيتُ نفسي أجول مع طيف ما، بعيداً عن جسدي، ومن حولي يصرخون أنْ أعطوه صدمة كهربائية. كان جسدي الخامل ينتفض على ذلك السرير، متلقّياً صدمات كهربائية، الواحدة تلو الأخرى. المكان حولي مضيء جداً. ضوء ينبعث من بعيد أقترب منه شيئاً فشيئاً. أستيقظ، فأرى ممرضاً، وأنابيب تخرج من يدي وصدري. أصوات أجهزة الإنعاش تقترب أكثر فأكثر، وجهاز التنفّس الاصطناعي مربوط بي، ويضخّ أوكسجيناً لرئتيّ. هل أنا ميّت أم حي؟
تركت الإصابة آثاراً جسدية ونفسية كبيرة عليّ، لا أزال أحملها كدليل على ما حدث. كذلك لها تأثير مادي مباشر، تمثّل في عدم قدرتي على التصوير، وعجزي ـ لفترة غير قصيرة ـ عن الإمساك بالكاميرا، ومتابعة التصوير. بالإضافة إلى آلام مبرحة منعتني من مغادرة السرير لأشهر. التأثير النفسي أصعب، فأنا لا أزال أعاني صدمة ما بعد الحادث، ولآثاره السلبية في نفسي أثر موجع.

انتقلت إلى أوروبا عام 2019. ما سبب ذلك؟ هل ترى فيها ما يمنحك إصراراً على العمل السينمائي؟
الإنسان القوي يستطيع أنْ يكون إنساناً جديداً بعد كلّ المحن التي تواجهه، وأنْ يُصبح أفضل. أما الضعيف، فليس سهلاً عليه أنْ يعرف ماذا يفعل، وسط الأحداث المجهولة في الكوكب، والأزمات الكبيرة. لكنّه، ربما، يستطيع أنْ يخلق من نفسه نسخة جديدة لإنسان جديد.
الأحداث الأخيرة في العراق أشبه بالجحيم، إذْ على الإنسان أنْ يخوض معركة إضافية، ليكون أو ليحافظ على إنسانيته، وسط بقايا الإنسان والإنسانية حوله. سبب انتقالي رفضُ الواقع والحياة بعد الحادث. القرار شخصيّ حازم، لأنّي أؤمن أنّ هناك إمكانية في أوروبا لامتلاك مساحة لا بأس بها من الحرية والقدرة على التعبير، وتقديم فنّ سينمائي، له القدرة على نقل الواقع بأمانة وصدق.

ماذا عن مشروع فيلم "جالينا الموصل"؟ كيف جاءتك فكرته؟
يطرح المشروع قضية الحرب وتأثيرها على الحياة، ليس في العراق فقط، بل في العالم. تأثيرها في النفس والجسد، وعلى نظرة الإنسان إلى الحياة بعد الحرب. القصّة عن راقصة باليه في زمن "داعش"، تعود إلى الموصل بعد تحريرها. تعود إلى المكان نفسه الذي شهد مقتل والدها. ترتدي النقاب، الذي كان اللباس الشرعي لـ"داعش". إنّه عبارة عن قطعة قماش سوداء طويلة، تغطّي كلّ الجسم، وقطعة أخرى تغطّي الوجه. تعود إلى الصالة، وتنزع العباءة، فتظهر بلباس الباليه، وتبدأ الرقص.
العوامل الثلاثة للعرض منحت الحياة لبعضها البعض. كل واحد منها يمثّل عصباً من أعصاب الحياة: الـ"باليرينا"، العصب الأكثر حيوية، المتأثّر بالصورة والموسيقى. هناك المأساوي. والبعض الآخر يمثّل الحياة اليومية للناس في الحرب. في هذا المشروع، هناك الناس جميعاً، الذين عانوا ولا يزالون يعانون الحرب وتأثيراتها، خاصةً الأطفال.
"جالينا الموصل" فكرة انبثقت من قصة حقيقية، في الموصل. بعد أكثر من لقاء بصديقي الفنان صلاح منسي، والحديث عن الفكرة، كُتب السيناريو في بغداد، وحصلت تعديلات عليه في ألمانيا. أنتِج العمل، وتمّ العرض الأول في "مبنى الثقافة والفنون" في مدينة كولونيا. ثم بدأت رحلة المهرجانات العربية والعالمية. حصل الفيلم على إشادة لجنة التحكيم في "مهرجان السويد للأفلام القصيرة".

عانت غالبية السينمائيين الشباب العراقيين مشاكل وصعوبات، تعترض أعمالهم. كيف تجلّت لك هذه المسألة؟
هناك عراقيل كثيرة أمام السينمائيين العراقيين، الذين تواجههم مصاعب عدّة، تُعرقل مسيرتهم الفنية، كالإنتاج والتمويل ونقص الخبرات. لكنّ أغلب الشباب منهم لديه إصرار على مواجهة تلك العراقيل. النتاج العراقي السينمائي، رغم قلّته، ذو مستوى عال، يرتقي إلى المهرجانات العالمية.

ماذا عن مشروعك الجديد؟
"المكان" مشروع فيلم سينمائي طويل، أعمل عليه حالياً. قصّة مُصوّر صحافي، اعتاد حمل الكاميرا منذ زمنٍ، لكنّه لم يعتد كَمّ الدمار الذي يحيط به من كل صوب، حين تلتقطه العدسة. حربٌ شرسة كالحرب الأخيرة في العراق، وما تميّزت به من أحداثٍ مفاجئة، جعلته مستعدّاً في كلّ وقت لالتقاط صورة: انفجار سيارة مُفخّخة، داعشي يُقتَل، إلخ. في المعارك، تتضارب الأحاسيس بين المجازفة لاقتناص صورة تحت أزيز الرصاص، والخوف وهو يُشاهد المدنيين يتشبّثون عبثاً بالحياة.
هذه سيرة حياة في جمهورية الخوف.

كيف ترى المشهد السينمائي العراقي؟
رغم المصاعب المادية واللوجستية، يشهد العراق ولادة شباب عراقيين ذوي طموح، ولديهم رؤية سينمائية مميّزة. أرض العراق خصبة، ففي البلد قصص تجعله يتصدّر المشهد السينمائي العالمي. بالإضافة إلى تنوّع البيئة واللهجات، ووجود طاقات شبابية لديها شغف للتدريب وإتقان المهنة. الأرض خصبة للمنتجين الأجانب والعرب أيضاً، للإنتاج المشترك مع العراق. هناك إنجازات فردية كبيرة، وفي المهجر شباب سينمائيون ينجزون المشاريع رغم كلّ الصعوبات.

المساهمون