يحبل مغرب اليوم بالكثير من التجارب الغنائية، التي استطاعت في فترة قصيرة، أنْ تصنع لها مساراً غنائياً مميزاً، بل إنّها تجاوزت، وفي مدّة وجيزة، أقطاب الغناء المغربي، الذين بدوا في السنوات الأخيرة، يشتغلون بلباسهم البهلواني التقليدي، وفقاً للحفلات المركزية والمُناسبات الرسمية، التي يُقيمها أصحاب النفوذ السياسي في المغرب الراهن.
إنّ هذه الوجوه الجديدة، مثل المغنية والموسيقيّة سكينة فحصي (1993)، لا سند رسمياً لها سوى الدعم الهشّ، الذي تحصل عليه من مؤسّسات ومراكز تابعة لفرنسا وبلجيكا وألمانيا وإسبانيا، ما يجعلها تجد صعوبات فنيّة جمّة في التنقّل والتدريب ومصاريف الحياة اليومية، أو عن طريق حفلات وسهرات ومهرجانات، رغم قلّتها وشحّها واعتمادها على وجوه رسمية مغربيّة ومشرقية.
ومع ذلك، تستمر هذه الوجوه الجديدة في صنع أغانٍ أكثر قدرة على اختراق أذواق وأمزجة الإنسان المعاصر. ففي تجربتها الغنائية، تنأى فحصي عن روح الشعر وجماليّات الزجل أو تقليد التراث الغنائي القادم من المشرق، لكنّ أهميّتها تكمن في مدى تعلّقها بتاريخها الاجتماعي؛ إذْ تبدو أغانيها وكأنّها سرديات تاريخيّة مُقتبسة من قصص وحكايات. ففيها يعثر المُستمع على نوع من قاموس غنائي أضحى منسيّاً داخل المُتخيّل الغنائي المغربي، وهذا في حد ذاته يتطلّب بحثاً وعناية ودراسة، رغم أنّها لا تحكي تاريخاً، بقدر ما تتملّك هذا التاريخ في جسدها، فينساب كأغنية متجذّرة في بيئتها وأصولها، كما هو الأمر في أغنية "خربوشة" التي اشتهرت بها سكينة فحصي؛ المرأة الثائرة بكلماتها على سلطة القبيلة (القايد) وأعيانها. إنّ شهرة هذه الأغنية داخل أغاني فنّ العيطة قد اخترقت وجدان المغاربة منذ منتصف القرن العشرين، غير أنّ طريقة أدائها من لدن فحصي، بدت وكأنّها تعيش حياة جديدة داخل الجيل الجديد من خلال عزف يجمع بين حداثة الآلة و"عتاقتها".
إنّ التجارب المغربيّة الجديدة متنوّعة بين الموسيقى والغناء، بين من تُقيم في الطرب العربي وتاريخه ومعالمه ووجوهه المألوفة عن طريق إعادة توليف أغانٍ بعينها على نحو معاصر، من خلال الآلات الموسيقيّة الإلكترونية، وأخرى بسبب حظوة تجارية جعلتها تتسلّق سلّم الشهرة سريعاً، بحكم ما يطبع أغانيها من ترفيه وابتذال.
تنتمي سكينة فحصي إلى الفئة الثالثة؛ إذْ بسبب معرفتها ودراستها وفطنتها، فإنّها تتعمّد فنيّاً مُجاوزة الحدود المألوفة داخل الغناء المغربي، من خلال الرجوع إلى تراث فنيّ وما يرتبط به من أشعار وأزجال وموشّحات، بغية اجتراح أغنية مغربيّة أكثر أصالة والتحاماً بمُخيّلة الفرد المغربي، كما نُعاين ذلك في تجربة فحصي أبرز الوجوه الفنيّة، التي وسمت الغناء المغربي المعاصر بالكثير من التجديد والتجدّد على مستوى التأليف والصوت والعزف والأداء.
استطاعت المغنية الشابة أنْ تُلفت إليها الجمهور العربي، انطلاقاً من مشاركتها في برنامج "أرابز غوت تالنت". ولأنّها درست البيولوجيا عوض فنّ الغناء، فقد جعلها ذلك محبوبة من قبل جماهيرها العربيّة، بحكم ما تتوفّر عليه من قوّة في خامة الصوت وقدرتها على فهم تحوّلات جمّة شهدتها الأغنية المعاصرة، بالنسبة لفتاة لم تتجاوز الضفة الأولى من العمر، وداخل بلد حيث الرداءة سيّدة المشهد الغنائي.
هذا الأمر يجعل سكينة فحصي مجرّد نسخة مُصغّرة عن أصوات مغربيّة واعدة، تلهث وراء بطش الحفلات الرسمية، خصوصاً أنّ هذا النوع من الأغاني، ذات النفحة التراثية، يبقى مُهمّشاً داخل المهرجانات المغربيّة، ويعاني من الإقصاء والجحود من قبل المؤسّسة الرسمية، التي ترعى وتُدعّم أغاني ترفيهية، بحكم ما تُحقّق لها من أرباح داخل القنوات الرسمية، فتظلّ هذه الأغاني التراثية تعيش فقط بسبب الإنتاج الغربي ومهرجاناته، داخل عدد من المدن، مثل بوردو الفرنسية وبروكسيل البلجيكية.
تتميّز أغاني فحصي بقدرة على اختراق واقع الأغنية الجديدة، بتحوّلاتها وجماليّاتها، باعتمادها على أنماط موسيقيّة أفريقية وغربية، تجعلها الأساس الفنيّ الذي يُشيّد عليها الفعل الغنائي من خلال الثورة على أشكال فنيّة وأنماط موسيقيّة، وقوالب غنائية، ظلّت الأغنية الكلاسيكية تحتكم إليها. وإذا كانت الفنانة المغربية قد حقّقت شهرة واسعة بين أبناء وبنات الجيل الجديد، فذلك يعود إلى فلسفة الموسيقى المعاصرة، التي باتت أكثر تنوّعاً على مستوى التوليف الموسيقيّ، إذ إنّ ذلك يجعلها غير مألوفة للمُستمع العربي.
ففي أغاني فحصي، تتداخل الأشكال الموسيقيّة الغربية والأفريقية، لكنّ الجوهر المغربي يبقى واحداً، فهو ما يُشدّ المُستمع ويجعله يستمتع بأغنية طالما سمعها من جدّه وجدّته في صباه، وفق قوالب موسيقيّة أكثر معاصرة. فهذا الـ "روسيكلاج" الغنائي ميّز أغاني فحصي، وجعلها أقرب إلى الناس بنوع من الوجد الصوفي.
على هذا الأساس، فإنّ تجربة فحصي ليست مجرّد صوت، كما تُقدّمها المحطّات التلفزيونية المغربيّة ومنابرها الإعلامية داخل وسائل التواصل الاجتماعي، إنّها تجربة واعدةٌ وأصيلة، وطاقة جامحة، وصوتٌ آسر، وجسدٌ مضمّخ بالجُرح، تجعل أغانيها تنساب هادئة من شغاف الذاكرة، إذ إنّ هذا الكل المُركّب في تجربتها والمُنفتح على أنواع موسيقيّة معاصرة، مثل الريغي والجاز والبلوز، ممتزجاً مع التراث المغربي بأنواعه الشعبية، مثل فنّ العيطة، يجعل أغانيها ذائعة الصيت، وتنطبع في الذاكرة بأغان مألوفة عند المغاربة، لكنّها تبقى عصيّة على القبض على مستوى التركيب التقني والتوليف الموسيقي، في الوقت نفسه.