تستمرّ اللبنانية زينة دكّاش في الاشتغال المسرحيّ مع سجناء وسجينات في لبنان. جمعيّتها "كتارسيس" معنية بـ"العلاج بالدراما والمسرح"، بحسب التعريف بها. اختيار المسجونين مبنيٌّ على رغبةٍ تنبع من كلّ واحدٍ منهم في المشاركة والتدريب والتمثيل. التمارين مُكثّفة، تحتاج إلى وقتٍ قبل تقديم عملٍ مسرحيّ في السجن (سجن رومية للرجال، وسجن النساء في بعبدا)، أمام مُشاهدين، يُدْعَون إلى المُشاهدة في السجن بدقّة وعناية. هذا كلّه بهدف مُساعدة المسجونين والسجينات، الراغبين في التدريب والعمل المسرحيين، على تجاوز بعض ارتباك وقلق، بسبب عيشٍ بائس، خصوصاً أنّ بعض هؤلاء "يُقيم" في السجن منذ سنين مديدة، من دون صدور حكمٍ بحقّه، يُحدِّد أعوام السجن وفقاً للتُهمة.
عام 2009، تُنجز دكّاش أول وثائقيّ لها، بعنوان "12 لبناني غاضب". التصوير يبدأ مع انطلاق التدريبات، وينتهي مع تقديم العمل المسرحيّ. هذا حاصلٌ أيضاً في "يوميات شهرزاد" (2013). رجال ونساء يروون، بأشكالٍ فنية مختلفة، بعض حكاياتهم ومواجعهم وأحلامهم المبتورة، من دون تناسي أفعالهم الجُرمية، التي يقولونها علناً بشيءٍ من الكوميديا المخفَّفة، والضحك الساخر والمرّ؛ أو بحسرة وقهرٍ، مع سرد مُسبّباتها.
"السجناء الزرق" (2020)، جديد دكّاش، يستمرّ في السياق نفسه، بانتقاله إلى "المبنى الأزرق" في سجن رومية، حيث يقبع مسجونون ذوو اضطرابات نفسية، مع أحكامٍ "لحين الشفاء"، بسبب ارتكابهم جرائم مختلفة، لن يكون مهمّاً التوقّف عندها، أو معرفتها. هؤلاء سيكونون محور الوثائقيّ، المُصوّر في جلسات العلاج بالدراما والمسرح، مُقامة عامي 2015 و2016.
تتنوّع أهداف مشروعٍ كهذا. العمل مع سجناء وسجينات يكشف أهوالاً في سجون لبنانية تحتاج إلى تأهيلٍ جذري، وفي قوانين تتطلّب إصلاحاً. المسألة غير مرتبطة فقط بعلاج بالدراما، رغم أنّ العلاج هذا نواة المشروع. سجن أناسٍ من دون صدور أحكامٍ، وبعضهم يمضي أعواماً طويلة، مشكلة. تخلّي أفرادٍ من العائلة عن سجين/ سجينة يقول شيئاً عن اجتماعٍ معطوبٍ، وعلاقات مرتبكة. أوضاع مزرية، وحاجات غائبة، وضروريات يصعب تأمينها. الأفلام الـ3، المنبثقة من 3 تدريبات تفضي إلى 3 أعمالٍ مسرحية، تُساهم، بشكلٍ أو بآخر، في تحقيق مطالب محقّة. دعوة وزراء داخلية وعدل وثقافة، ومسؤولين في مؤسّسات الدولة، الأمنية والقضائية، جزءٌ من تحريك المسائل، لتحقيق المطالب. هذا يحصل أكثر من مرّة، وإنْ يحتاج الوضع إلى تأهيلٍ جذريّ وكامل.
الذهاب إلى "المبنى الأزرق"، وفيه "المأوى الاحترازيّ"، يؤدّي إلى فضح إهمالٍ ولامبالاة وفوضى في مركز سجناء مُصابين بأعطاب نفسية، ما يستدعي علاجاً نفسياً وطبياً أساسياً، ومتابعة قانونية تُلغي تلك الجملة الأقسى من كلّ شيء آخر: "أحكام لحين الشفاء". السجناء أنفسهم، الذين يظهرون أمام الكاميرا (كريم غريّب)، يقولون ويتصرّفون وينتبهون كأنْ لا اضطراب نفسياً لديهم، بل رغبة في اهتمامٍ وتقارب. العلاج بالدراما نافعٌ، فسجناء "12 لبناني غاضب" وسجينات "يوميات شهرزاد" يبدون أكثر حيوية وعيشاً ونبضاً وتأمّلاً وضحكاً، من دون غيابٍ مطلق لأسى ولوعة ووجع. لكنْ، ماذا بعد انتهاء المسرحية؟ (يسأل أحد الـ"12 لبنانياً غاضباً"). نزلاء "المبنى الأزرق" يُدركون تماماً أحوالهم. بعضهم يقول بعطبٍ فيه. بعضهم الآخر يُشير إلى واقعه. قلّة منهم ترفض ظهوراً أمام الكاميرا. هناك من يتأقلم مع وضعٍ مُهين. هنا أيضاً، السؤال نفسه يُطرح، من دون أنْ يتفوّه به أحدٌ منهم.
النهاية الناقصة والهشّة للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) تؤثّر سلباً في نفسٍ وذاتٍ وروح. البيئة الضيّقة، التي يولد فيها أحدهم، عامل سلبيّ، فالمخدّرات تجد طريقها إليه سريعاً، والسيرة اللاحقة على تلك اللحظات الأولى مليئة بتخبّطات ومصاعب، يبلغ المرء في نهايتها "مبنى أزرق" كهذا. هناك من يعترف بجرح في القلب، يُدرك أنّه أساس خللٍ لاحقٍ في النفس. الأفعال الجُرمية غير مُهمّة في لحظةٍ كهذه. الوضع مزرٍ. الانفضاض الرسميّ عن ساكني المبنى مُخيف. "السجناء الزرق" يوثِّق علاقة ـ إنسانية وفنية وحياتية ـ بين هؤلاء وزينة دكّاش وفريق العمل ("كتارسيس" والمسرحية والفيلم). السجناء يعكسون وضعاً مزرياً، بشكلٍ غير مباشر، وسجناء آخرون يُشاركون في العلاج بالدراما، فيؤدّون أدوار شخصيات "المبنى الأزرق" في مسرحيةٍ، تُعرض أمام ضيوفٍ مختلفي المهن والاهتمامات، ويروون ـ كزملائهم في ذاك المبنى ـ بعض أحوالهم وقلقهم ومشاغلهم، وبعض ذكرياتٍ باقية لهم من أزمنةٍ قديمة.
هناك مَطبٌّ أساسيّ: استخدام تعبير "مريض نفسي". العلاج النفسي غير مستخدمٍ إياه، إذْ يُلغيه من قاموسه منذ أعوامٍ. الاضطرابات النفسية والعقلية تعبيرٌ أدقّ وأهمّ وأصدق، وأكثر إنسانية وواقعية. التعبير القديم سيئ، واستخدامه أمام مضطربين نفسياً وأمام آخرين أيضاً ـ والاستخدام يُتَداول إلى الآن في فئات اجتماعية كثيرة ـ أكثر سوءاً.
يصف قانون العقوبات (1943) هؤلاء بـ"مجانين" و"ممسوسين" و"معتوهين". هذا قاسٍ. هذا مُهين. هذه تعابير شعبية غير لائقة بقوانين دولة (!). التعريف الرسميّ بالفيلم يُشير إليهم بـ"ذوي الأمراض النفسية". مكتوبٌ فيه أيضاً أنّ "أقسى الأقدار وأكثرها ظلماً تلك التي تحكم على المريض النفسي حكماً غير معروف الأمد، في سجنين: سجن القضبان الخارجي، وسجنه الداخلي". الأقسى والأكثر ظلماً أيضاً أنْ يوصف هؤلاء بـ"ذوي الأمراض النفسية".
اشتغالات زينة دكّاش تُخفِّف من وطأة تعبيرٍ كهذا. "السجناء الزرق" يقول، في نهايته، إنّ ترتيباتٍ عدّة تُصنع: تجديد المبنى كلّياً (2016 ـ 2017)؛ إطلاق سراح بعض السجناء: عيتاني ومرعي (يونيو/حزيران 2016) بعد 37 عاماً من الحجز، بفضل جهود قضاة وإعلاميين ومهتمّين وجمعية "كاترسيس"، ويُقيمان حالياً في مركز لكبار السنّ، سيلتحق به وبهما عفيف، عام 2019، بعد 23 عاماً، بفضل جهود الأفراد أنفسهم.
هذا مهمّ. هذا مطلوب. الأهم والأكثر إلحاحاً يكمنان في تأهيل السجون وإصلاح القوانين.