قال لها: "عشاء لذيذ". أجابته: "لا أريد أنْ يكون كلّ مُنجَزي في الحياة تحضير العشاء" ("الصورة"، ستيلا ماغي، 2020).
هذا مطلوبٌ من النساء في مجتمع بطريركي. أرادت الشابّة كريستينا إيميس (شانتي آدامز) التحرّر من هذا، فهجرت حبيبها الريفي، ورحلت إلى المدينة الكبيرة. هناك، ناضلت لتحقيق حلمها. صُدمت من ردّ فعل حبيبها. تحمّلت، وتابعت المغامرة في مدينة كوزموبوليتية متحرّرة. هناك، في المدينة الكبيرة، عشّ العلاقات العابرة. كيف هي العلاقة بين رجل وامرأة التقيا توّاً؟ بعد تفريغ النزوة، نرى غريبين في سرير واحد. رأساً لرأس.
في المدينة، العمل والاستقلال الاقتصادي مخطّط لهما على مدى طويل، بينما العلاقات العاطفية "ابنة ساعتها". ينطبق هنا قول ابن حزم في "طوق الحمامة": "أسرع الأشياء نموّاً أسرعها فناءً".
نزوة عمرها "إحدى عشرة دقيقة". علاقة تُشبه لحظة التقاط صورة. تسمع صوتاً، وتطلق برقاً، ثم تهمد.
تمكّنت ستيلا ماغي (1980) من جعلنا نرى هذا المأزق، الذي يصيرُ الحبّ فيه ضحية للطموح الجارف. مع ذلك، تُصوّر شخصياتها قريبةً من الكاميرا. تلتقطها بحبّ، ولا تُدينها. يساعد الجانب الدلالي للتقطيع في بناء المعنى. الكاميرا الفوتوغرافية سابقة على الكاميرا السينماتوغرافية، ومؤسِّسة لجماليّاتها. التأطير لغة بصرية، يُنتظر أنْ تعرض للعين فكرة المشهد مجسّمة.
يعرض الفيلم صُوَرًا تبني السيرة الشخصية للمُصوّرة. فيه صُوَر ورقية بالأسود والأبيض. يُهيمن على الفيلم لونٌ بنّي رمادي، يُقرّبه من الصورة الفوتوغرافية.
بعد نصف ساعة من المُشاهدة، خمّنتُ أنّ هذا فيلم أخرجته امرأة تعرف صعوبات بناء علاقة حميمة، في ظلّ السرعة التي يعرفها إيقاع العلاقات الاجتماعية في المدن، حيث العمل أهمّ من الحبّ. يعرض الفيلم مأزق الفرد بين تحقيق طموحه، وعيش حياة طبيعية يتهدّدها الروتين. تُمكِّن الصُوَرُ القويةُ المُشاهدَ من بناء علاقة حسّية مع ما يشاهده. يتّضح أنّ بناء علاقة حميمية حقيقية بين شخصين يحتاج إلى زمن، والزمن سلعة نادرة. لذلك، الحميمية السطحية التي تتشكّل في المساء، تتبدّد في الصباح. ثم تُعاد الكرّة في نهاية الأسبوع الموالي.
هذا فيلم لا يطرح قضية كبرى تصلح للتنظير، بل يتناول العالم الداخلي الحميميّ للفرد، في مجتمع مفتوح لا رقيب فيه ولا واشٍ. فيلمٌ عن الزمن الرومانسي المسروق من زمن العمل والجري الدائم في المدينة المتاهة. على هذا المستوى، تشبه عوالم ستيلا ماغي عوالم الروائية الأميركية توني موريسون، في روايتها "أكثر العيون زرقة"، خاصة على مستوى ملاحظة التفاصيل الحميمية، التي يصعب على الرجال الانتباه إليها، في ظلّ هوسهم بالعالم الخارجي.
يعرض "الصورة" اختلاف مكانيْن، نيويورك ونيو أورليان. مركز وهامش. هذا الكادر وضعته ماغي لعرض حكايتها بصرياً. مع ذلك، يبدو أنّ الغيتو يمتدّ في المكانين، فللبطلة صديقة سمراء وصديق أسود وجيران سود، يتحرّكون في فضاء اجتماعي لا يظهر فيه إلا السود. هذا أيضاً يُذكّر بروايات موريسون.
أية شجاعة أنْ تُنتج "يونيفرسال" فيلماً كهذا، من دون مطاردات ورصاص ودم؟ لكنْ، لنعد إلى السؤال الرئيسي: ماذا غداً صباحاً؟ ماذا بعد نزوة؟
إلى مقرّ العمل سِرْ، بانتظار فرصة وأمسية جديدتين، وغالباً حتّى نهاية الأسبوع، بعد ساعات طويلة في مقرّ العمل، عندما تحين لحظة التخلّص من الاحتجاز والضغط، حين يُغادر الموظّفُ المقرّ، ويدخلُ مقهى أو صالة سينما أو قاعة معرض. يبحث عن ونيس. في بداية اللقاء، يُعلن كلّ فرد أنّه انفصل عن حبيبه السابق. هكذا، يُفتح الباب على المستقبل، مع امرأة استثنائية. امرأة اللحظة الأخيرة التي حلم بها.
حين تكون هناك عاصفة شديدة وبرد قارس، يُستحسن ألا يكون الفرد وحده في بيته. يخلو بنفسه، ويسترجع شريط حياته، ويقلق. لذلك، يحتاج إلى حبيبٍ. بعدها، يبدأ الامتحان: ماذا بعد تفريغ النزوة؟
تبدأ محاولات التعارف، شرط إظهار الجدية والاهتمام. هذا صعب، لأنّه يتطلّب زمناً، بينما الاهتمام والزمن مخصّصان للعمل. لا يبقى إلا زمن مسروق للرومانسية. أحياناً، ربما تنجح المحاولة. حينها، يدعمها مشترك بين الأصدقاء، كحبّ الفنّ، وحبّ التصوير والأفلام.
في الفنّ، يفترضُ بالحكايات أنْ تصحِّح فوضى حياتنا. توفّر السينما للأزواج مُشتركاً للحديث عنه، في ساعات البيت الطويلة. تقول إحدى شخصيات الفيلم: "لوْلا بثّ الأفلام على المنصّات، لصار الطلاق وشيكاً". حلّتْ فرجةُ السينما على المنصّات محلّ تسلية لعب الورق بين الزوجين. يُنقِذ الفنّ البشر من الضجر الماحق.