سامي التليلي (1/ 2): "فشل الثورة غياب الوعي الفردي والجماعي"

10 يونيو 2024
سامي التليلي: في الذاكرة جانبٌ شخصيّ دائماً (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- بطل قصتنا، الذي بدأ مسيرته في السينما "الأندرغراوند" وأخرج أول فيلم له في سن العشرين، يركز في أعماله على الذاكرة والتاريخ، معترفًا برفضه للموضوعية في الأفلام الوثائقية، ما يعكس نظرته الفريدة للسينما كأداة للتأثير الاجتماعي والثقافي.
- حقق نجاحًا كبيرًا بفيلمه الوثائقي "يلعن بو الفسفاط" الذي فاز بجائزة في أبوظبي، لكنه واجه تحديات كبيرة في إكمال فيلمه الثاني "عالبار"، الذي استغرق سبع سنوات لإنجازه، ما يبرز الصعوبات التي تواجه المخرجين في تحقيق رؤيتهم الفنية.
- يعتبر السينما أداة لإثارة الوعي وتحفيز التغيير، مظهرًا التزامًا عميقًا بالتعبير عن قضايا الذاكرة والتاريخ من خلال نهج فريد يمزج بين الشعر والواقعية، مؤكدًا على أهمية السينما في إثراء الثقافة والمجتمع.

قادمٌ من عائلة نقابية معارضة، ومن نوادي السينما. في طفولته، أجاد الحكي لأقرانه، وأضحكهم. منذ تلك اللحظة، قرّر أنْ يكون مخرجاً، لكنّه لم يدرس السينما بل الآداب. له تجارب غير احترافية في سينما "أندرغراوند". أول فيلم أنجزه حين بلغ 20 عاماً. يشتغل على الذاكرة والتاريخ في أفلامه الوثائقية، ويعترف أنّه لا يؤمن بالموضوعية في هذا النوع الفيلمي.

للسينما برأيه دورٌ محدّد في إثارة المشاكل، ليبدأ المجتمع بحثه عن حلول. حصل على دكتوراه في الآداب الحديثة من "جامعة إكس" (مرسيليا)، وماجستير في إنتاج الأفلام من "ماتفيلم سكول" (لندن)، وعلى تكوين في الأفلام الوثائقية في "ورشات فاران" (باريس). كاتب حوار ومستشار سيناريو لأفلامٍ عدّة، ومدير فني ومبرمج أفلام في مهرجانات، كـ"أيام قرطاج السينمائية" (2015) و"قابس سينما فن" (دورات عدّة).

بعد فيلمه الطويل الأول "يلعن بو الفسفاط" (2012، "ذهبية" أبوظبي أفضل وثائقي عربي)، استقبل الجمهور سامي التليلي في المطار بفرح كبير. بعد ذلك، لم تكن الأمور مبهجة وسهلة، بل أصعب، إذْ خُلقت عراقيل أمام إنجاز فيلمه الثاني "عالبار" (2019)، الذي استغرق تحقيقه سبع سنوات. تتراوح أعماله وشخصيته بين غضب وسخرية.

 

(*) هل ولدت فكرة "يلعن بو الفُسفاط" مع مولد الثورة وحرق محمد البوعزيزي نفسه في ديسمبر/كانون الأول 2010؟

الفكرة موجودة منذ اندلاع أحداث "الرديف"، واعتصامات عمّال الفوسفات واعتقالهم عام 2008. حينها، أي قبل 2010، كان التصوير ممنوعاً. لكنّ البعض صوّر الأحداث خلسة بهواتف جوّالة، لم تكن جودتها عالية وصُورها نقيّة. كانت لديّ تجارب في سينما "أندرغراوند"، لكنّي أحببت صُنع فيلم عن هذه الأحداث في إطار السينما الاحترافية، فقيمة الأحداث ستظهر لاحقاً، وسأتركها إلى حين أستطيع تصوير الفيلم الذي أطمح إليه. قامت الثورة، وبدأ مخرجون عديدون تصوير أفلامٍ عنها، بينما فضّلت العودة إلى ثلاثة أعوام قبلها لفهم ما الذي حدث.

 

(*) أحداث "الرديف" عامي 2007 و2008، والحديث عن "القفصة"، مواد صوّرها آخرون. هل كنت تتابع معهم أحداث ثورة عمال الفوسفات واعتصاماتهم منذ ذاك الحين؟

كنت قريباً جداً من الحراك السياسي ـ الاجتماعي، أو بالأحرى كنت فيه. كنت ضد الدكتاتورية. ولأنّي جزء من هذا، كنت على علاقة بأشخاص يُصوّرون، وبآخرين مرتبطين بالأحداث. منذ ذلك الوقت، كنت أخزّن فيديوهات وصوراً في الأرشيف، إلى أنْ يأتي وقت أستخدمها. للنزاهة والأمانة العلمية، وضعت أسماء مَنْ صوّر هذه الأحداث في الجينيريك.

 

(*) للبناء السردي طبيعة شديدة الخصوصية، إذْ يستند على الشعر الذي يقترب أحياناً من "الراب" للتعبير عن حال البلد، فيُخبر عن غناها بثرواتها وفقر أهلها، وذهاب الثروات إلى جيوب الرأسماليين. كيف وُلد هذا الخيط، الذي يمسك الحكاية في نسيج قوي؟ هل صوّرت مع الشخصيات المختلفة، ثم بدأت تفكّر في الأسلوب، ثم ولدت فكرة الكلمات الغنائية التي كتبتها أنت؟

البناء السردي مستوحى من التجوّل في جنوبي تونس، ويشبه إلى حدّ الحكواتي في مصر، أو السيرة الهلالية. هناك ترابطٌ وتشابهٌ بين جنوبي مصر وجنوبي تونس، أقصد الحكواتي الشعبي في تونس، الذي يروي الحكايات ويمتلك جانباً بطولياً ملحمياً. ليس "راب"، بل أدب شفهي للمنطقة.

صغيراً، كنت أزور "قفصة"، وأستمع مع والدي وأقاربي إلى حكواتي الأدب الشفهي. من هنا، كان استلهام أسلوب السرد. لكنّ صعوبة الوثائقي كامنةٌ في أنّ هناك تصوّراً نظرياً أولاً، وعند الذهاب إلى مكان التصوير أو المونتاج، يكتشف المخرج أنّ هذا التصوّر غير مناسب. إذاً، لا بُدّ من البحث عن طريق أخرى. لم أكن واثقاً في أنّ هذا الأسلوب السردي سيكون صالحاً تماماً، فصوّرت مع أشخاص، وفي المونتاج ولّفت بعضهم مع بعض توازياً.

 

(*) عندما لم يتذكّر أحد المشاركين في فيلمك تفاصيل الحدث، شغّلت مقطع فيديو صوّرته مع آخر (المُدرّس). هل تثق بالذاكرة؟ هل تعتبر أنّ ما قاله البطل ـ المُدرّس وثيقة؟ ما الذي يجعلك تثق بالذاكرة؟ أم أنّك وظّفت تلك التكئة لمنح الفيلم مزيداً من المصداقية والسينمائية؟

هذا ليس عدم ثقة فقط. أردت إثبات أنّ في الذاكرة جانباً شخصياً. الذاكرة بطبيعتها شخصية. هذا هو الفرق بين الذاكرة والتاريخ. حتى عندما نقول "ذاكرة وطنية" أو "ذاكرة جماعية"، هذا يعني أنّ فيها جانباً ذاتياً. حين نستخدم كلمة ذاتي، هناك أحاسيس وانعكاسات وانكسارات هذا الشخص. أعتبر تلك اللحظة من أهم لحظات الفيلم، لأنّ الشخص الذي عاش الأحداث جعلته شدّة الصدمة ينسى هذا.

أهمية المشهد أيضاً أنّ الصدمة يلزمها وقت لتجاوزها. هذا ليس معناه أنّي أثق بالذاكرة، لكنّي أريد أن أُري الناس الذين عاشوا هذه التجارب أنّه عندما نضع أشياء عدّة من الذاكرة جنباً إلى جنب نحصل على صورة مقرّبة لما صار، وفي الوقت نفسه أضفي مصداقية على المدخل السردي الذي اخترته.

 

الأرشيف
التحديثات الحية

 

(*) حينما تتأمّل الفيلم الآن، وترى الحالة التي وصل إليها المجتمع حالياً، بماذا تشعر؟ بالإحباط، أم بأنّ السينما لم تقم بدورها؟

الإحباط موجود، طالما الشعور موجود. السينما قامت بدورها، لكنّ الوعي الاجتماعي والثقافي والفكري في تونس تدنّى. هناك وعي عال في وقت ما، لكنّه تدنّى لاحقاً، عند الطبقة السياسية الحاكمة، وعند الناس الذين يعتبرون أنفسهم من النخبة. للأسف، لم يكن أمام الثورة في تونس غير الفشل، بسبب هذا التدنّي، الراسخ إلى الآن.

دور السينما إثارة المشاكل كي يأتي المجتمع بحلول. دورها محدود. أيضاً، لم يكن هناك وعي بأهمية هذا النوع من الأفلام التي نصنعها. فُرضِت فرضاً على الذائقة الفنية والفكرية. هناك كثيرون يفضّلون نوعاً آخر للمُشاهدة، غير الأفلام التجريبية التي تختارها أربعة خمسة مهرجانات مُصنّفة من الصفّ الأول. لم يكن هناك وعي بذلك حتى في صناعة السينما في تونس.

 

(*) هل تتذكّر شعورك حين نال الفيلم جائزة أبوظبي بأنه أفضل وثائقي عربي؟ هل أثّر ذلك على شعورك وإيمانك بالسينما؟

مرّرت في ظروفٍ صعبة جداً على المستوى الشخصي قبل إنجاز الفيلم وبعده. حتى بعد حصولي على الجائزة. الشعور متناقضٌ ومتداخل، إذ إنّي فرحت، وفي الوقت نفسه شعرت بالضياع بسبب تلك الفترة التي كانت تمرّ فيها تونس. الجائزة منحتني شعوراً بالفرح والفخر، وأعطتني جرعة تنفّس.

في تونس، أثار الفوز فرحاً أكبر، فعام 2012 كان فترة مَدّ وجزر. هناك أناس استقبلوني في المطار (يضحك). كانت مشاعر طيبة كثيراً. لكنْ، بعد 12 عاماً، تغيّرت أمور كثيرة. كنت أتخيّل أنّ الأمور ستصبح أسهل بعد جوائز "يلعن بو الفسفاط"، لكنّها باتت أصعب. كنت أتوقّع أنْ أثبت وجودي كمخرج، وأنّ التعامل مع الفيلم الثاني أسهل. لكنّ الأمور تعقّدت كثيراً، وحدث العكس. مع "عالبار"، كانت هناك محاولات غير بريئة لئلا يُنجز الفيلم.

 

(*) متى ولدت فكرة "عالبار"، أو "على العارضة"؟ في طفولتك، أو في فترة السجن لعامين كعقاب لك بعد مباراة الطفولة التي انتهت في قسم الشرطة، وقرأت عن تحطّم وهم حصول تونس على كأس العالم عام 1978؟ ما الذي أحيا عندك ذكرى هذا الموضوع؟ مشاركة تونس في كأس العالم 2018، في روسيا؟

هناك طرق عدّة للاشتغال على الأفلام. هناك من يتتبّع "التريند" في السوق لاختيار مواضيع. مثلاً، تكون أحيانا فترة إرهاب، أو اهتمام بالحقوق الفردية أو حقوق المرأة. أنا لا أعطي دروساً لأحد، لكنّي لا أعمل بهذه الطريقة. هذا خيار شخصي مقتنع به. عندي رؤية للأشياء. لا أحبّ الانخراط في ما يطلبه المتفرّج أو المموّل أو المهرجانات. هذا يُصعِّب المهمّة عليّ.

الشغف عندي موجود في الذاكرة والتاريخ، فأحدهما غير مفصول عن الآخر. أتصوّر أنّ هذا مشتركٌ بين شعوب المنطقة العربية.

المشكلة علاقتنا بالتاريخ. في كلّ مرة يُكتب التاريخ، يُطوَّع لهدف سياسي أو شخصي، فكلّ حاكم تقريباً يحاول كتابة تاريخه. لدينا في تونس علاقة غريبة بالذاكرة. لو أنّك تتأمّلين كمية الأمثال الشعبية التونسية في علاقتها بالذاكرة، تكتشفين أنّها رهيبة. يمكن عمل بحث أنثروبولوجي مهم في هذا الموضوع. تجدين أمثالاً كـ: "اللي فات مات"، أو "خلاص.. راح هذا الموضوع. راح ولا فائدة في إعادة فتحه".

بعد ثورة 2010، توقّعت أنّ الأمور لن تنجح، رغم أنّي كنت في حياتي أناضل من أجل الديمقراطية والتعددية، ومن أجل أنْ يعيش المواطن التونسي في مجتمع عادل وفي ظلّ مؤسّسة تحكم بالعدل وفي ظلّ الحرية والتعددية. لكنْ، لمّا صارت الأحداث، ورغم أنّي طرف فاعل فيها، لم أكن سلبياً، لكنّي توقّعت أنّ الأمور لن تنجح، لأنّ هناك زخماً فكرياً فُقِد في وقت ما، ولأنّ النضج الفكري لم يكن متوفّراً. كانت هناك حلقة مفقودة في الذاكرة، فجيل فترة الثورة، الذي تتراوح أعمار أبنائه بين 25 و27 عاماً، كَبُر. عاش طفولته ومُراهقته في فترة حكم بن علي، بينما كان تاريخ تونس يتوقّف مع التاريخ الرسمي عند نهاية الاستعمار، ومع قدوم بن علي. فترة دامت 30 عاماً. فترة حكم بورقيبة والصراعات على السلطة، وتلك الحاصلة في حرب التحرير. كلّ هذا مغيّب، وجزء من ذاكرة هذا الجيل بات مغيّباً. بمعنى آخر: هناك جانب من حياة الفرد غير موجود.

المساهمون