وقع زلزال في وسط المغرب مساء 8 سبتمبر/ أيلول 2023. بُثَّ الحدث مباشرة على شاشات الهواتف المحمولة من مواقع مختلفة، لأنّ الكاميرات في كلّ مكان. نُقِل الحدث من كاميرات المراقبة في مقاهي ومنازل ومنصّات مهرجانات، ومن ساحة جامع الفنا في قلب مراكش. تتابعت الأيام. شاهد المتابعون الخراب من خلال عين الكاميرات. صار محيط مراكش (منطقة الحوز)، المجهول، تحت الأضواء. تحيي الكاميرا الزوايا الميتة. الكاميرا شاهد عيان لا يتعب ولا يكذب.
مُحِيَت المسافة بين الحدث وزمن نقله وبثّه، كما عُرض الخبر بالصوت المُصاحب لحظة التصوير، من دون حاجة إلى تعليق يُخبِر ويُفسّر. مع الكاميرا كشاهد، لا حاجة إلى لغةٍ. تحرّكت الأرض، وتساقطت الصخور، وساد إحساس بضآلة الإنسان أمام الطبيعة. كأنّ يوم القيامة وشيك، ذاك الذي يُروِّج له مدمنو الـ"هولوغرام".
بعد تصوير الزلزال، حَلّ تتبّع وإحصاء الخراب الذي ترتّب عنه. انطلقت مواكب المساعدات محمَّلة بالأغذية والأفرشة، وبالكاميرات التي تُصوّر فعل الخير.
نزل الجيش المغربي، مع حضور كبير للجنديّات والضابطات، للتعامل مع نساء الجبال، إلى الميدان، بجرّافاته وشاحناته وأطبائه، فأقام مستشفيات ميدانية ومطاعم كبيرة، ووزّع آلاف الخِيَم، في 24 ساعة. بعد 3 أيام، زار العاهل المغربي محمد السادس المصابين في المستشفيات. انتُشِلَت جثث ودُفِنَت قبل أنْ تتسبَّب بوباء. خُصِّص 14 ألف دولار أميركي كتعويض لبناء كلّ منزل. تمّ إعلان اليتامى "مكفولي الأمة"، أي: "يتمتّع الأطفال، المعترف لهم بصفة مكفولي الأمة، بحقّ الاستفادة من الرعاية المعنوية والمساعدة المادية، إلى حين بلوغهم سنّ الرشد، أو الانقطاع عن دراستهم".
جرى هذا في الميدان، في أسبوع، فانتقل التركيز من الأرض إلى شاشات الهواتف. استحال التصوير المزمن إلى عدوى، دفعت آلاف الأشخاص إلى الانطلاق نحو الحُوَز للمساعدة والتصوير. حتّى راجت نادرة تقول إنّ قافلة مساعدات رجعت قبل الوصول إلى مراكش بسبب تعطّل الكاميرا.
في تفسير هذا، يقول الدكتور حمزة أندلسي (باحث في سوسيولوجيا الفن وأنثربولوجيا البصريات): "أصبحت التغطية الإعلامية في زمن الصورة والمونتاج، اليوم، تحتاج من الصحافة إلى (لمسة سينمائية فرجوية) حقّاً، ولا أدلّ على ذلك أكثر من كَمِّ المُشاهدات التي تحصدها الفيديوهات الطريفة والمرحة لأطفال الحوز وهُمْ يُعَبِّرُون ببراءة عن أحلامهم. في أزمنة الديجيتال، اليوم، لم يعد الجمهور يرغب في سماع الخبر جافّاً، إنما أصبح على وجه الدقّة يرغب في (الاستمتاع) بالخبر كشاهد عيان".
مع كلّ صورةٍ انهيارٌ وحزن، ثم "كتارسيس" بفضل أجواء التضامن. يتجاوب الناس مع الصُور بمشاعرهم لا بعقولهم. كانت الصُور وسائل تعبئة ترفع منسوب الوطنية. تحوّلت المساعدة والتصوير إلى تعبير عن التضامن والوطنية. انطلقت حملة للتبرّع بالدم، وتحقّق فائض في يومين. كلّ من تبرّع بدمٍ أو شاحنة أغطية أو تغذية، التَقَط صُور، وتمّ استجواب الناجين من الرجال والنساء والأطفال، وظهرت مشاكل التبوّل الإرادي بسبب الخوف. من يُصوّر هذا وينشره، يستحقّ الإعدام. كانت للزلزال المُصوَّر تداعيات عدّة، كالحدود الدقيقة بين جدوى الصورة وحماية الخُصوصية والتشهير بالناس.
هجمت الكاميرات على الوجوه، وبرزت مشاكل مختلفة: ظهرت كاميرات مُضلِّلة. تقاسم تجّار الكوارث فيديوهات قديمة، فيها انهيار جبال، وانقلاب جرّافات، وسقوط أحجار، لتخويف الناس، لأنّ ما جرى لا يكفيهم. يُفترض أنْ تحقّق المبالغات نِسَب مشاهدة أعلى. يمرّ وقت طويل قبل أنْ ينتبه المشاهدون أنّ تلك الفيديوهات قديمة، ولم تُلتَقط في المغرب أصلاً. ظَهر متضامنون يُصوّرون أنفسهم وهم يبيتون في الخلاء، ذكوراً وإناثاً، في مجتمع جبليّ يفصل بين الجنسين في منطقة الحوز. كان هذا زلزالَ الكاميرا في مجتمع قبليّ جبليّ مُحافظ.
تعرّض بعض أصحاب الكاميرات للنقد اللاذع، أو العقوبة، بسبب المحتوى الذي نشروه. هناك من دعا إلى الزواج بفتيات صغيرات جميلات في منطقة الزلزال، صنّفته الحكومة مُتاجِراً بالبشر. كلّ من صَوّر أطفالاً يتسلّمون منه حليباً أو حلوى، صنّفته الحكومة مُجرماً مُشهِّراً. كُلّ من صوَّر محنة الناس، كي يصنع محتوى يجلب جمهوراً، صنّفته الحكومة مُنتحل مهنة صحافي. كلّ ما كان مُتسَامَحاً معه في الأيام العادية، صار جنحة بعد الزلزال.
هجمت الكاميرات على الضحايا، وسَمَّت مواقع التواصل ذلك محتوى. يبدو أنّ المصائبَ المُصوّرة محتوى يُحقِّق أكبر مُشاهدة. كان الزلزال تحت الكاميرات يترافق مع تحذيرات.
كتب الروائي الروسي تولستوي: "عندما تقف على مآسي الآخرين وانكسارهم، إياك أنْ تبتسم. تأدَّب في حضرة الجرح. كُنْ إنساناً، أو مُتْ وأنتَ تحاول". حَاولْ، لأنّ للإنسان مستقبلاً على الأرض.
هذا عن الأضرار. لكنْ، للزلزال نتائج مفيدة عميقة، على المدى البعيد. تحرّكت الأرض، وأدّى تصوير اللقطات وتكرار مُشاهدتها إلى التخفيف من مفعولها المرعب. كلّما زادت التبرّعات وتدخّل الدولة، اتّضح أنّ هذا زلزال يُمكن السيطرة على نتائجه. هذا ربح سيكولوجي كبير ضد مروّجي القيامة غداً، وعلامات الساعة، وهؤلاء نادراً ما يستيقظون باكراً. تفجّرت فجأة عيونٌ في الجبال التي عرفت جفافاً كبيراً في الأعوام الـ20 الماضية. كانت مَشاهد الماء الجاري أمام سكّان المنطقة يداً إلهية سخيّة، تمسح ألم الزلزال.
ستفرض مَشاهد بؤس المباني الطينية الخشبية على الدولة تخصيص ميزانية ضخمة للتجهيز في العالم القروي. سيكون هذا من فوائد غزو الكاميرات لمنطقة الزلزال.