رِن غِل وأحمد مكّي: الراب خارج حدوده الثقافية

16 ابريل 2023
خاض رِن غِل تجربة مرضية قاسية قبل أن يعود إلى الراب (فيسبوك)
+ الخط -

حين يأتي ذكره، يستدعي فن الراب في الذهن صوراً لأميركيين أفارقة، سود البشرة في الغالب، يرتدون سُتراً فضفاضة وقبعات رياضية فاقعة الألوان، محاطين بسيارات فارهة ومن وراء نظارات شمسية، يرددون فيما يتراقصون أشعاراً موزونة مقفّاة باللكنة الأفروأميركية المحكية، ترافقهم إيقاعات صاخبة مركبة، وبعض الألحان.

ذاك أن الراب، ضمن مصطلح المظلة الجامعة "هيب هوب"، بات يُمثّل إلى جانب كلّ من السول، الـ آر آند بي (أي إيقاع وبلوز) والجاز، الروافع الموسيقية للهوية الأميركية ببشرتها السمراء؛ إذ يُعتقد أن الأصل يعود به إلى تقاليد الشعر والغناء التي حفظها وحملها العبيد الذين جلبهم المستعمرون البيض من القارة السوداء إلى القارة الجديدة. أما اليوم، وبحكم قوة النفوذ الثقافي الأميركي على مدى القرن العشرين ومن خلال الموسيقى والسينما، بات الراب متجاوزاً لحدود الهوية المحلية، مُلهماً الملايين حول العالم من هويات ولغات وثقافات عديدة.

لا يُسمع الراب في المجتمعات المختلفة حول الأرض بلغات مختلفة وحسب، إنما يُطعّم أيضاً بألوان موسيقية عديدة ويتناول قضايا اجتماعية وإنسانية، لا تعود به بالضرورة إلى السود الأميركيين وحدهم بشؤونهم وشجونهم. تحوّراته وتفاعلاته مع ثقافات وموسيقات أخرى، تُجسّد ذاك الأثر الحسن، المستحب واللازم لاستمرار الفنون وتطورها، ألا وهو ما يُشار إليه، وبصورة مسهبة في الآونة الأخيرة من باب النقد والهجاء، بالاستلاب الثقافي.

بالنسبة إلى رِن غِل (Ren Gill) من إقليم ويلز في المملكة المتحدة، مثّل الراب له، منذ كان فتى، ملاذاً وجودياً. بموهبة طبيعية خارقة للعادة، نظم الشعر بنفسه، ثم لحّن له حوامل لحنية أدّاها بمفرده على الغيتار، مُضيفاً إليها عنصراً أدائياً، يُضفي على أغانيه طابعاً قصصياً مسرحياً. عن طريق الغناء والأداء منفرداً على قوارع طرقات برينغتون جنوب لندن، كسب رزقه بينما كان يدرس الموسيقى في جامعة باث.

لفت أسلوبه الخاص إلى أسماع واحدة من كُبرى شركات الإنتاج الفني، فأبرمت معه عقداً من أجل إصدار ألبومه الأول. إلا أن القدر كان له رأي آخر؛ إذّاك وهو لم يزل في الخامسة والعشرين من العمر، أصيب بمرض مزمن غامض، ألزمه الفراش أياماً وشهوراً، وألحق به أضراراً جسدية ونفسية جسيمة، مقوّضاً بذلك فرصة نجومية كانت منه قاب قوسين أو أدنى.

عنصرا البوح والشكوى اللذان يكتنفان لون الراب، جعلاه سلاحاً بحنجرة رِن، يقارع به المرض. من سرير المشفى والمنزل الذي اضطر إلى ملازمته جُلّ ساعات اليوم، أخذ ينظم أغاني راب، يصاحبها بنفسه على الغيتار، يتحدث من خلالها عن آلامه الجسدية والنفسية جراء سقم ألم به فقوَّض مستقبله وحرف مسار حياته. بفضل مواقع التواصل الاجتماعي و"يوتيوب"، استطاع أن يوصل أغانيه ذات المشهدية الدرامية المؤثرة إلى جهات الإنترنت الأربع، واضعاً نصب عينيه هدف التوعية بمرضه، جامعاً التبرعات لأجل تطوير سبل الكشف المبكر عنه وتأمين العلاج الناجع له.

من جهة أخرى، لأحمد مكّي المغني، الممثل والمخرج المصري، حكاية مشابهة مع المرض، ووجهاً مماثلاً لكيفية زرع بذرة الراب في تربة ثقافية جديدة، فينبت زرعاً موسيقياً فريداً؛ إذ سبق له وأن عانى من فيروس غامض سبب له عوارض خطيرة جعلته طريح الفراش لمدة قاربت عاماً من الزمن. محنة ألمت به، تجاوزها إثر شفائه عائداً إلى المشهد الفني المصري والعربي بعزيمة ثابتة ورؤية غائرة إزاء قيمة الحياة وغايتها.

بنظر مكّي؛ فإن لفن الراب جذوراً عربية تعود به إلى مبارزات الهجاء التي اعتاد شعراء شبه الجزيرة زمن الجاهلية الانخراط بها. صرامة القافية، وضوح المعنى وموسيقية العروض، جميعها عوامل مشتركة تجمع الراب بنسخته الحديثة المنبثقة عن الثقافة الأميركية السوداء بتراث الشعر الجاهلي، ما يُرجّح، بحسب مكّي، انتقاله من الجزيرة العربية إلى أفريقيا ثم أميركا.

في أغنية مصورة بعنوان "ولعانة"، صدرت ضمن سياق سلسلة تلفزيونية كوميدية مطولة من إخراج إسلام خيري، بسبعة أجزاء و180 حلقة، تحمل اسم "الكبير أوي"، مثّل مكّي فيها كما شارك في إنتاجها، يصبح الراب لسان حال الحياة المصرية في الصعيد. كل من اللهجة والمواضيع، إضافة إلى البيئة التي صُوّرت ضمنها مشاهد الفيديو كليب، ما هي إلا تجسيد لأجواء الريف وأحواله الاجتماعية وموسيقاه الشعبية من خلال صياغة مشوقة حيوية الإيقاع، مسهبة وساخرة.

يُقحم مكّي مواهبه المتعددة جميعها في الأغنية. إضافة إلى كونه المُغني (العمدة) والمنتج، قد قام أيضاً بالإخراج. في "هيصة" بصرية وسردية مرحة على الطريقة المصرية سيّالة وكثيفة وإن بقيت خفيفة، استثمر كلّ تقليعات العصر الرقمية من خدع تركيب الوجوه على غير أجسادها، وإدخال رسوم الصور المتحركة مع اللقطات الحية؛ فيجعل المشاهد ملتصقاً بشاشة جواله على طول الكليب. وسيعجز عن تتبّع كل تلك النكات إن لم يشاهد الفيديو مراتٍ عديدة. 

من جهة نظم الراب، يتبع مكّي نهجاً مغايراً لذاك الذي ميّز معظم أغانيه، أي الأسلوب الشاعري الهادئ والرائق، فيطلق العنان لنظم سريع كثيف يوائم به تسارع مشاهد الفيديو والطابع الفكاهي الذي يتمتع به. كل ذلك باللهجة الصعيدية الخاصة، متحدثاً بلسان العمدة (الكبير). تُضاف إلى نظمه عناصر محلية من تلوينات موسيقية فلكلورية لآلة الناي تؤدي ألحاناً مرافقة ببُعيدات شرقية، يُسمع صوت المطربة الشعبية هدى السنباطي صدّاحاً، يطلق موالاً حاد النبرة بمقدرة وأصالة، مع الإبقاء على الخطاب ساخراً بتضمينه جملاً باللغة الإنكليزية.

ليست مظاهر التحور الثقافي والتلاقح الأسلوبي التي تطرأ على شكل من الأشكال الفنية، سوى علامة من علامات حيويته وحضوره وقوة تأثيره التي تتجاوز به المجال الثقافي الذي نشأ فيه. يتميز الراب بشكل خاص بخواص طبيعية تؤهله لهكذا تجاوز، بحكم النظم مسحوب النغم والإيقاع الحيوي المحاكي، لما أطلق عليه رائد التحليل النفسي كارل يونغ "الأنماط الأصلية" (Archetypes) التي يشترك بها الوعي الإنساني. تلك الخواص تجعل منه شكلاً مثالياً للعبور خارج البيئة المحلية، ومن ثم الحلول في بيئات ولغات وموسيقات، بعدد بيئات ولغات وموسيقات العالم. يُغيّر من هويته باستمرار وفي ذات الوقت يبقى أصيلاً.

المساهمون