بدأ الصحافيون الأجانب بمغادرة روسيا قبل عام، خلال الأيام الأولى التي أعقبت غزو أوكرانيا. ففي مواجهة حملة قمع قاسية شنّها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على حرية التعبير، سحبت وكالات الأنباء الغربية مراسليها من موسكو، وعلّقت عمليات جمع المعلومات في روسيا. كان الخطر على الصحافيين، في بلد يمنع استعمال كلمة "حرب" في الحديث عن الحرب، كبيراً جداً.
وسرعان ما استأنفت بعض المؤسسات الإعلامية الأجنبية عملها في روسيا، مثل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي). لكن مؤسسات أخرى لم تفعل، وبينها وكالة بلومبيرغ. الصحف التي كانت تملك مكاتب دائمة في العاصمة الروسية توقفت عن ذلك، وصارت تبعث مراسليها في مهمات ثم تخرجهم، وذلك من مدن أكثر أمناً، كبرلين ودبي. وعلى الرغم من هذه الظروف المعقدة، فإن المراسلين الأجانب أملوا مواصلة عملهم هناك.
هذا الأمل تحطم الأسبوع الماضي باعتقال مراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، في قضية تجسس هي الأولى من نوعها ضد مراسل أميركي منذ نهاية الحرب الباردة. وهذه الجريمة عقوبتها السجن عشرين عاماً حسب المادة الـ 276 من قانون العقوبات الروسي.
رفضت الصحيفة الأميركية الاتهامات التي وجهت إلى غيرشكوفيتش (31 عاماً)، وضغطت إدارة جو بايدن من أجل إطلاق سراحه. لكن موسكو وجهت إليه رسمياً تهمة التجسس الجمعة، وفقاً لوكالات أنباء روسية. وأوردت وكالة تاسّ، نقلاً عن مصدر في أجهزة إنفاذ القانون، أن "محققي هيئة الأمن الفيدرالية الروسية وجهوا لغيرشكوفيتش تهمة التجسس لصالح بلاده"، وأشارت إلى أنه "نفى بشدة الاتهامات كلها"، وقال إنه منخرط في أنشطة صحافية في روسيا. والقضية مصنّفة سرّية، ما يحدّ من كمية المعلومات المتوافرة بشأنها.
وبغضّ النظر عمّا ستؤول إليه قضية غيرشكوفيتش، فإن اعتقاله دقّ ناقوس الخطر بالنسبة إلى الصحافيين الأجانب. ووفقاً لصحيفة نيويورك تايمز، تعيد المؤسسات الإخبارية النظر في كيفية تغطية أحد أكثر الأحداث الجيوسياسية إلحاحاً في العالم اليوم.
وفي هذا السياق، قالت مراسلة صحيفة فايننشال تايمز البريطانية في روسيا، بولينا إيفانوفا، إن اعتقال غيرشكوفيتش "أثار مخاوف الجميع"، وذلك خلال تجمّع للصحافيين أخيراً في لندن، حيث اصطف الحاضرون لكتابة رسائل دعم لزميلهم المعتقل في سجن ليفورتوفو في موسكو. وأضافت إيفانوفا: "من الصعب تقييم الوضع الأمني حين نعمل في بلد مثل روسيا، خصوصاً أن الكثير من الأمور تتغير بسرعة فائقة (...) علينا إعادة تقييم الأمور طوال الوقت".
غيرشكوفيتش كان يملك تصريحاً بالعمل من وزارة الخارجية الروسية، وهو إجراء استمر حتى بعد اجتياح أوكرانيا، وكان يُعتقد أنه يمثل درجة ما من الحماية للصحافيين الغربيين. منذ اعتقال غيرشكوفيتش، غادر روسيا رئيس مكتب "وول ستريت جورنال" في موسكو، ونقلت "نيويورك تايمز" معظم العاملين في مكتبها إلى خارج روسيا، وليس لديها حالياً أي مراسلين دائمين هناك.
الصحافيون الأميركيون هم الأكثر قلقاً، إذ يتخوفون من احتجازهم لدى السلطات الروسية لمبادلتهم بأسرى.
وقالت منسقة برنامج أوروبا وآسيا الوسطى في لجنة حماية الصحافيين غولنوزا سعيد لـ"نيويورك تايمز": "من الواضح أن أي مراسل أجنبي لن يسلم من هذا القمع. العالم يفقد تلك النافذة على روسيا، والشعب الروسي يفقد إحدى المنصات القليلة جداً التي يمكن سماعها".
والجمعة أصدر السيناتور تشاك شومر، زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأميركي، وميتش مكونيل، زعيم الأقلية الجمهورية، بياناً مشتركاً نادراً، دعا روسيا إلى الإفراج الفوري عن غيرشكوفيتش. وشددا على أن "الصحافة ليست جريمة".
وجاء بيان أعلى مسؤولين في مجلس الشيوخ الأميركي رغم أن موسكو أكدت للسفيرة الأميركية الجديدة لدى روسيا لين تريسي، الخميس، أن ممارسة الضغوط في هذا الملف أمر "غير مجدٍ". وأوضحت وزارة الخارجية الروسية أن "الضجيج حول هذه القضية... من أجل الضغط على السلطات الروسية وعلى المحكمة التي ستقرر مصير إيفان غيرشكوفيتش لا فائدة منه ولا معنى له".