من متحف فيترا في بلدة فايل أم راين الألمانية، إلى مركز M7 وسط مشيرب قلب الدوحة (تابع لمتاحف قطر)، حضرت عينة من أكثر من خمسين قطعة أثاث تمثل المتحف الألماني الذي يضم 7000 قطعة تعود إلى القرنين الماضيين، وتبرز فيها أساليب ومفاهيم فنية، بما في ذلك الـ"آرت نوفو"، والباوهاوس، وما بعد الحداثة، فضلاً عن تأثيرات الزمن الرقمي الذي نعيشه.
في معرض "روائع فن تصميم الأثاث" الذي يستمر حتى التاسع من ديسمبر/ كانون الأول المقبل، نعاين نسخاً أصلية عتيقة، بعضها نماذج أولية أو نسخ فردية، تعكس فكرة التصميم وراء كل قطعة، والموضوعات المختلفة التي لعبت دوراً في إنشاء بعض قطع الأثاث الأوسع شهرة في التاريخ الحديث، وخصوصاً المقاعد التي تظهر في غالبية التصميمات.
كثير من القطع تقدم طرحاً تاريخياً وفنياً غنياً رغم وجودها المألوف الذي طرأت عليه إضافات جمالية ووظيفية، لكنها ظلت مألوفة كونها ترد إلينا من خطوط إنتاج لا تكل ولا تمل.
ملمحان
المعرض يعيدنا إلى أول فكرة قابلة للتنفيذ، وقبلها أفكار بعضها فشل، وأول براءة اختراع، وبالتأكيد دائماً نعود إلى ملمحين هامين منذ نهاية القرن التاسع عشر: البساطة التي طبعت التوجهات الفنية والتصميمية والاختزال الشكلي، والثاني التعرف إلى مواد وتقنيات جديدة أشهرها ثني الخشب، وصفائح الخشب المضغوط، والبلاستيك رمز النزعة الاستهلاكية.
يقدم المعرض أعمالاً لبعض أشهر الأسماء في مجال التصميم الحديث، مثل لو كوربوزييه، وتشارلز وراي إيمز، وفلورنس نول، وألفار آلتو، وشارلوت بيرياند، ومارسيل بروير، وفيرجيل أبلوه.
تشمل أبرزها الطاولة الجانبية "إي 1027" للرسامة والمعمارية الإيرلندية إيلين غراي (1878- 1976)، وهي صممتها عام 1927 تلبيةً لفكرة تناول الإفطار في السرير، ولا يزال تصنيعها جارياً حتى الآن من قبل شركة ألمانية.
وهناك كرسي فرايشفينغر للمصمم الألماني لودفيغ ميس فان دير روه (1886- 1969). والحديث هنا عن كرسي بلا رجلين خلفيتين من الفولاذ الأنبوبي والجلد المطلي بالنيكل الذي صممه عام 1927، فكان ثورة على مفهوم المفروشات الفخمة والأشكال المزخرفة. أعجب الناس وشهد منذ ذلك الوقت انتشاراً واسعاً.
كرسي بانتون
لدينا كرسي "بانتون" من تصميم الدنماركي فيرنر بانتون (1926- 1998)، عام 1956 وهو الكرسي الذي يسمى "الكابولي" أو الناتئ من دون رجلين خلفيتين ومن قطعة واحدة من البوليستر المقوى بألياف زجاجية على شكل حرف S.
أما كرسي "نملة" الذي صممه المهندس المعماري الدنماركي آرنه ياكوبسون (1902- 1971) عام 1952؛ فيرجح أنه أول كرسي مزود بغطاء مقعد مصنوع من قطعة واحدة من الخشب المعاكس منحني الشكل يدخل خط الإنتاج بواسطة حيلة بسيطة وبارعة، ألا وهي نحت الوسط الضيق لظهر الكرسي ليشبه ظهر النملة، ومن هنا جاءت التسمية.
ومع منتصف الستينيات، سنكون مع تصميم إيطالي لأريكة "بوكا" على شكل شفتين، مستلهماً فكرة التصميم من الفنان سلفادور دالي. واعتمد المصممون في عملهم على رغوة البولي يوريثان التي تتيح إمكانية تصميم كافة الأشكال المرغوب بها بالكثافة المطلوبة.
وسبقتها أريكة المارشميلو (1955) التي توصل إلى فكرتها المصمم الأميركي جورج نيلسون (1908- 1986) بتركيب وسائد من الرغوة على شكل قرص بشكل منفرد، والوسائد مثبتة على هيكل داعم. ذاع صيتها باعتبارها أول نموذج لأثاث الفن الشعبي (بوب آرت).
وبعد ربع قرن، جاء الإيطالي إيتوري سوتزاس، وابتكر "رفوف كارلتون" من ألواح الجسيمات المغطاة بصفائح بلاستيكية بأشكال هندسية بسيطة وأخرى صارخة متجاوزة مبادئ الحداثة التي تقوم على الإخلاص للمواد ووظائفها، ومخلصاً بدلاً من ذلك لثقافة البوب.
ووصولاً إلى الألفية الجديدة نطالع طاولة "ميسا" من تصميم زها حديد (1950-2016) عام 2007. وحديد العراقية البريطانية إلى جانب شغلها المعماري صممت قطع أثاث مستلهمة من الطبيعة النباتية والتضاريس، ومنها هذه الطاولة المصممة رقمياً على شكل أوراق زنابق ماء كبيرة عائمة.
الاستدامة
في رؤيته، يتناول المعرض تحت بند "التصاميم المستدامة"، كيف أصبح المصممون اليوم أكثر إدراكاً لدورهم في المساهمة في خلق نمط حياة أكثر استدامة وفي حماية موارد كوكبنا.
ويعيد تذكيرنا بأن الاستدامة ليست مفهوما جديداً في التصميم، كما يتضح بالنظر إلى تطور الأثاث الحديث. فبينما استكشف عديد من المصممين بحماس في عشرينيات القرن الماضي إمكانات المعدن في صناعة الأثاث، توسع المهندس المعماري والمصمم الفنلندي ألفار آلتو (1898-1976) في استخدام الأخشاب بوصفها مواد تقليدية ومتجددة ملائمة للتصاميم الرائدة أيضاً. وبعد 50 عاماً، وجد المصمم الأميركي فرانك جيري (1929) إلهامه في مادة مستدامة أخرى، حيث حوّل الورق المقوى إلى سلسلة من منحوتات أثاث مفعمة بروح المرح، أطلق عليها اسم "إيزي إيدجز".
وهي الحال أيضاً مع إبداعات المصممين المعاصرين في استكشاف المواد المستدامة. فنجد أن كريستين مايندرتسما (1980) قد صنعت كرسي الكتان "فلاكس" 2015 المبسط من الألياف التي عادة ما يصنع منها قماش الكتان، بينما صنع البرازيليان الأخوان فرناندو (1961- 2022) وهومبرتو كامبانا (1953) كرسي الصالة "فافيلا" عام 1991، مستلهمين أكواخ الأحياء الفقيرة في البرازيل، ومستخدمين خشب مخلفات غير معالج وخشب صناديق الخضار. ومع ذلك، يظل البلاستيك التحدي الرئيسي أمام التصميم المستدام؛ إذ إن البلاستيك الخام المصنوع من الموارد الأحفورية، والذي يستحيل استبعاده من صناعة الأثاث له بصمة كربونية ضخمة على البيئة.
لهذا السبب، يعمل عديد من المصممين والمصنعين على طرق لتجنب البلاستيك الخام حيثما أمكن. وانطلاقاً من فكرة الاقتصاد الدائري، بدأ المصممون باستخدام البلاستيك المعاد تدويره، الأمر الذي نلاحظه في كرسي "المكنسة"، وقد صممه الفرنسي فيليب ستارك (1949)، الذي وصف فكرة كرسيه بالقول "هناك شخص متواضع يلتقط مقشّته المتواضعة ويبدأ في تنظيف ورشة العمل فيصنع العجب من العدم".
إلهام الطبيعة
يتطرق المعرض إلى ملهم خاص في مسيرة التصميم ألا وهو الطبيعة. فقد كان استخدام الزخارف والصور المستوحاة من الطبيعة لتزيين قطع الأثاث والديكورات الداخلية أمراً معروفاً في العصور القديمة، إلا أن تأثير الطبيعة يتجاوز مجرد التزيين. كانت حركة الفن الجديد (آرت نوفو)، التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، إحدى حركات التصميم الأولى التي استقت الإلهام من الطبيعة وكان أتباعها شغوفين بالإنشاءات المستوحاة منها.
وفي السنوات الأخيرة، أعطت تقنية التصميم بمساعدة الكمبيوتر دفعة كبيرة لاستلهام الطبيعة، لأنها بسطت إبداع الأشكال المعقدة. وتتمثل القطع المعاصرة التي تستوحي الزخارف من الطبيعة في "الكرسي النباتي" الذي صمّمه الفرنسيان رونان (1971) وإروان بوروليك (1976) والمستوحى من أغصان الأشجار.
عوامل السوق والتحديات الاجتماعية هي بعض من المؤثرات التي تصبغ حاجات مرحلة، ثم تتحول من أفكار إلى تقاليد. هناك كرسي صممه عام 1859 الألماني النمساوي مايكل ثونيت (1796- 1871) وسماه "رقم 14"، مستخدماً تقنية ثني الخشب الصلب التي ابتكرها ثونيت.
وصار الكرسي بسرعة المفضل في المطاعم والمقاهي ولدى الطبقة الوسطى، ليس بسبب سعره المنافس فقط، بل لأنه أسس لطريقة بيع جديدة، فالكرسي لا يُشحن كاملاً، بل مجزأ إلى عدة قطع، كما يحدث معنا هذه الأيام من دون أن نستغربه. وفي الواقع، فإنه منذ منتصف القرن العشرين، يمكن القول إن تجميع الأثاث بات طريقة شائعة ذات تكلفة معقولة.
أداة ديمقراطية
يطرح القيمون على المعرض ملاحظة "مؤسفة"، تشير إلى أن السعر المعقول في عالم الأثاث يعني انخفاض الجودة. كما يمكن أن يعني أيضاً أن القطعة المرغوبة هي مجرد نسخة أنتجت من دون ترخيص أو في ظل ظروف عمل سيئة. ومع ذلك، في الأمثلة المقدمة على أرض المعرض، يُنظر إلى التصميم على أنه أداة ديمقراطية، أي ملك لكل فرد في المجتمع، بغض النظر عن وضعه الاجتماعي.
نستطيع القول إن فكرة "الجمال في البساطة" التي صاغها المصمم الألماني لودفيغ ميس فان دير روه، التي رآها المعرض إحدى خلفيات هذا المشهد البصري، مرتبطة بالتحولات الكبرى للإنسان المعاصر، وأحد نوازعه لمواجهة ضغط المدينة الصناعية وإذعانه لساعات العمل وسلطة رأس المال.
ولكن، مثلما انطلق توجه التبسيط والوظائفية، فإن فنانين آخرين وجدوا في التصميمات مساحات سوريالية، كما هي الحال مع السويسرية ميريت أوبنهايم (1913-1985) التي شاركت في بعض معارض السورياليين، فصممت ملابس ومجوهرات وقطع أثاث تحت هذا التأثير، ومن ذلك "طاولة تراتشا" عام 1939، بأرجل تحاكي سيقان وأصابع الطيور، وما زال هذا النوع يطرح حتى اليوم بتصميمات معدلة.
تصميم مفاهيمي
لا يكتفي المعرض بالجانب التصنيعي على خطوط الإنتاج، بل يعرض تجارب تصميمات مفاهيمية، مثل نموذج سلسلة "كراسي ستيتمينت" لتقديم صورة للسلوك البشري وتحليله والتأثير عليه، للإسباني مارتي غيكسي. كرسي البلاستيك الذي نعثر عليه بسهولة في الأحواش وعلى الأرصفة، يتحول هنا مساحة للتزيين مع شعار "احترموا الأثاث الرخيص".
كما نقف أمام أحد "العروش" للنحات الموزمبيقي غونسالو مابوندا (1975) ضمن سلسلة عمل عليها منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. يجمع مابوندا الخردة المعدنية في ورشة عمله التي تحمل اسمه، ويعيد تدوير الأسلحة المستخدمة خلال الحرب الأهلية الموزمبيقية التي اندلعت بين عامي 1975 و1992، ثم يلحمها لتشكيل منحوتات على شكل كراسي، ما يعطيها شكلاً ومعنى جديدين.