تكرر قناة الجزيرة المشهد: جثة شيرين أبو عاقلة تحت شجرة في جنين، ووجهها صوب الأرض. بركة دماء تحيط بوجهها لكننا لا نراها. وجهها الذي نعرفه ويعرفه العالم جيداً، ينزف حتى استشهادها. لا نرى ما يحيط بها، نسمع أصواتاً مبهمة، صوت زميلتها شذى حنايشة مرتجفاً، ورجال يركضون صوب الجثة. كانت جثة حتى قبل إعلان الخبر، قبل بيان وزارة الصحة، وقبل نعي الجزيرة. ماذا نرى في الساعات التي تلت الجريمة؟ زملاء شيرين يبكون، جيفارا البديري مرمية فوق الجثة الملفوفة بالعلم الفلسطيني وسترة الصحافة، إلياس كرام يصلي مرتجفاً ومنهاراً، وليد العمري وعلى وجهه علامات الرعب. ونسمع بكاءً كثيراً. بكاء ونوح في كل فلسطين، في كل العالم العربي. كيف تموت شيرين أبو عاقلة؟ ألا يعيش هؤلاء الذين نراهم على الشاشة ويطبعون ذاكرتنا إلى الأبد؟
لكن أين اختفى كل ما سبق؟ كيف لم يره الإعلام الغربي؟ الموت بفجاجته وبوقاحته ومباشرته، الدماء بوضوحها، والقاتل بفجوره ووضوح هويته، كيف اختفى؟ في تغطيته لجريمة اغتيال الاحتلال الإسرائيلي لمراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة في جنين لم يشذّ الإعلام الغربي (الأميركي تحديداً) عن قواعده الثابتة منذ 7 عقود.
لم يكن مفاجئاً هذا التعاطي الحيادي مع الجريمة، وهذا النقل لخبر قتلها، كما لو كانت قد توفيت "بعد صراع مع المرض". فخلال العقود الماضية قونن الإعلام الغربي تعاطفه مع الاحتلال الإسرائيلي، خلق له معجماً صحافياً خاصاً يلزم صحافييه باعتماده، ويفرض حصاراً على من يختار مفرداته من خارجه.
وهنا لا نتحدّث عن معجم وهمي، بل معجم فعلي وحقيقي، وقواعد تحرير مكتوبة ومعممة على الصحافيين في الإعلام الغربي. فالدليل التحريري لوكالة أسوشييتد برس على سبيل المثال، وهو الذي تعتمده أغلب المؤسسات الإعلامية الأميركية، "يحث على عدم الإشارة إلى (فلسطين) لأنها ليست دولة موحدة ومستقلة تمامًا". فتفضل الوكالة استخدام عبارات "الضفة الغربية"، و"قطاع غزة" أو "الأراضي الفلسطينية" من دون الإشارة إلى كلمة فلسطين. وهو ما ينسحب على مؤسسات إعلامية كثيرة، تمنع صحافييها من ذكر اسم فلسطين، لما في ذلك من اعتراف بوجود كيان فلسطيني حقيقي قابع تحت الاحتلال.
هذا الحذر في اختيار الكلمات، نقيس عليه كل شيء آخر: من تفادي الإشارة إلى الاحتلال بوضوح عند ارتكاب جرائمه وتجهيل المرتكب في أغلب الأحيان، إلى عرض وجهة نظر الفلسطينيين، مروراً بالسياق الذي تكتب فيه الأخبار وتغطيات الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين.
في شهر فبراير/شباط الماضي، حولت صحيفة واشنطن بوست عبارة "حركة التضامن مع فلسطين" إلى "حركة التضامن مع الأراضي الفلسطينية" في نقلها لبيان تضامني صادر عن منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين الأميركيين. أما صحيفة لوس أنجليس تايمز فتمنع على موظفيها استخدام كلمة "فلسطين" بشكل مطلق وفق ما أكدت الصحافية العاملة في الصحيفة سوهاونا حسين قبل 3 أشهر عبر تويتر: "ممنوع علينا استخدام كلمة (فلسطين) في لوس أنجليس تايمز. السياسة التحريرية المرسلة إلينا والمعمّمة عام 2005 تسمح باستخدام (فلسطين) فقط لوصف الأرض التي كانت موجودة بيان عامَي 1923 و1948، أو في سياق وصف تاريخي للمنطقة".
لكن المعجم أو الدليل التحريري ليس ما يحكم سياسة هذه المؤسسات تجاه القضية الفلسطين وحيداً، فتفاصيل كثيرة تتداخل، قسم كبير منه مرتبط بالتمويل ومالكي المؤسسات الإعلامية، قسم آخر مرتبط بالسياسات العامة للدول تجاه القضية الفلسطينية وجانب ثالث وأساسي مرتبط بالفريق التحريري.
لنأخذ أشهر صحف العالم أي "نيويورك تايمز" الأميركية التي تعاملت مع خبر اغتيال أبو عاقلة بشكل مستفز، متجاهلة جزءاً كبيراً من التفاصيل المرتبطة بعملية القتل على اعتبار أن "ملابسات إطلاق النار على الصحافية الفلسطينية الأميركية شيرين أبو عاقلة لم تتضح على الفور، لكنها أصيبت برصاصة في اشتباكات بين الجيش الإسرائيلي ومسلحين فلسطينيين في المدينة". تتبنى الصحيفة وجهة النظر التي روج لها الاحتلال عن غموض هوية مطلق النار، تحت ستار من "الموضوعية". طيب، لنلقِ نظرة على فريق عمل المطبوعة، تحديداً في الملف الفلسطيني. عام 2007 أعلنت الصحيفة عن انضمام الصحافية إيزابيل كيرشنير إلى مكتبها في القدس المحتلة. كيرشنير لها ابنان خدما في جيش الاحتلال، وفق ما أكدت بنفسها عام 2014، ووفق ما تظهر حسابات ولديها غافرييل وليف غودمان على موقع فيسبوك. في العام نفسه قال الكاتب في الصحيفة ديفيد بروكس إن ابنه انضم إلى جيش الاحتلال. وقبل ذلك بأربعة أعوام كشف موقع الانتفاضة الإلكترونية (2010)، أن ابن مدير مكتب القدس المحتلة وقتها إيثان برونر خدم في جيش الاحتلال، وأن الصحيفة الأميركية رفضت الكشف عن ذلك عكس ما تفرضه عليها شروط الشفافية.
مثالٌ آخر، مجلة "ذي أتلانتيك" التي يرأس تحريرها جيفري غولدبرغ منذ عام 2016. غولدبرغ تطوع خلال الانتفاضة الأولى في جيش الاحتلال وعمل كحارس في سجن النقب الصحراوي سيئ السمعة، الذي شهد بحسب المنظمات الحقوقية انتهاكات متواصلة لحقوق الإنسان. في كتابه Prisoners الصادر عام 2006، يروي كيف ساهم خلال عمله في المعتقل في التستر على حادث ضرب وتعذيب أسير فلسطيني، من قبل عسكري في جيش الاحتلال.
هذه نماذج كثيرة للصحافيين الموكلين بوضع السياسات العامة في المؤسسات الإعلامية الغربية، أو هؤلاء الموكلين بنقل الأخبار والأحداث من داخل فلسطين. وهو ما قد يفسّر الكثير من الانحياز والرمادية أو التواطؤ مع الاحتلال في أحيان كثيرة، وفي جرائم واضحة معالمها كاملة كما هي حال جريمة اغتيال شيرين أبو عاقلة.
يعلم الإعلام الغربي جيداً أنه منافق في ما يخص القضية الفلسطينية، يعلم أنه منافق حين ينشر موقع صحيفة ذا غارديان البريطانية في صدر صفحته الأولى يوم الأربعاء، تحقيقاً عن صحافيين أوكرانيين "كادوا يقتلون" في الحرب، بينما ينشر في مكان هامشي تماماً خبر اغتيال صحافية فلسطينية بحجم وشهرة وشجاعة شيرين أبو عاقلة، ويدرك أنه منافق حين تنتظر "نيويورك تايمز" ساعات طويلة قبل نشر خبر صغير عن تقرير "منظمة العفو الدولية" حول الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل، رغم مياعة التقرير واعترافه بشكل متكرر بحق إسرائيل بالدفاع عن وجودها... لا تنتهي الأمثلة خصوصاً عند رصد التغطية التي رافقت إعدام أبو عاقلة.
طبعا التعاطف مع الاحتلال يتجاوز الحدود الأميركية والبريطانية. فعند الحديث عن الإعلام الغربي، لا بدّ من وقفة كذلك عند قناة "دويتشه فيله" العربية (المؤسسة الإعلامية الدولية لجمهورية ألمانيا الاتحادية) التي أجرت قبل أشهر طويلة "حملة تطهير" ضدّ عاملين عرب لهم مواقف مناهضة للاحتلال، فطردت عدداً كبيراً منهم. يوم الأربعاء كررت القناة مراراً أن "الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني يتبادلان الاتهامات في مقتل أبو عاقلة"، لتهرب بعدها من الواقع نحو تقارير فضفاضة عن حماية الصحافيين أثناء ممارستهم لعملهم.
صباح الأربعاء 11 مايو/أيار 2022 قتلت المراسلة الفلسطينية شيرين أو عاقلة. قتلها عسكري إسرائيلي بإطلاق رصاصة مباشرة على وجهها. استشهدت شيرين أبو عاقلة مرتدية سترة وخوذة الصحافة، لكن كل ذلك لم يحصل في الإعلام الغربي. هناك، "ماتت شيرين أبو عاقلة عن 51 عاماً".