المعلم رمضان، هكذا يعرفه الجميع في القاهرة، فهو ركن من أركان ميدان التحرير: يجلس على فرشته منذ نصف قرن ونيف، بالتناوب مع أولاده وعماله، لبيع الصحف المحلية والدولية. لكن منذ عامَين، يتوارى خلف جدران محله، ينعي مهنته المحاصرة تحت ضغوط قبضة أمنية، وأجهزة لا تسمح إلا بصحافة الصوت الواحد، ومطبوعات مستنسخة بعضها من بعض، لا تتمايز إلا بأسمائها، وهو ما زاد المسافة بين بياعي الصحف والجمهور الذي أصبح أكثر انشغالاً بمواجهة مشاكله اليومية وزيادة الغلاء.
قبل أن نشرع في توجيه الأسئلة، بادرنا رمضان فارس بطلب مفاجئ: قراءة الفاتحة على المهنة التي ماتت. وأضاف: "إننا نلعب الآن في الوقت بدل الضائع". سألناه، العيب في الصناعة أم الصانع؟ قال: "ما يحدث للمهنة، يؤكد أن الدولة لا تريد صحفاً، بل تغلق المطبوعات الناجحة، وتحافظ على الفاشلة، لذلك كما ترى... الصحف تباع في أنحاء العالم إلا في مصر". شرح المعلم رمضان الأمر ببساطة قائلاً: "كانت الصحف في الماضي تباع إما بسبب الموضوعات الجيدة، فننادي بأعلى صوت على عنوان الموضوع أو الحادثة، وإذا لم يكن هناك موضوعاً، نبيع بأسماء الكتاب المشاهير، مثل توفيق الحكيم، ومصطفى أمين وعلي أمين وجلال الدين الحمامصي، وكان أشهرهم بيعاً محمد حسنين هيكل، إذ كنت أقف على ناصية ميدان التحرير وأبيع بنفسي ألف نسخة خلال ساعة، وإذ لم نجد مضموناً، نبيع بالصورة الجميلة على المجلات".
أما اليوم، فشبّه الصحف الورقية القديمة بالقول: "كل الصحف متشابهة، لذلك تراجع البيع. كنت أوزع 35 ألف صحيفة يومياً، بينما لا تتعدى الصحف التي استلمها اليوم من المؤسسات الصحافية كلها 7 آلاف نسخة".
خلال عقوده الطويلة في العمل في بيع الصحف، بات المعلم رمضان خبيراً بأوضاع هذه المهنة، وأهمية كل مطبوعة، لذا قال بحسرة "مؤسسة دار الهلال العريقة أوقفت إصدار مجلة الكواكب التي كانت توزع 30 ألف نسخة أسبوعياً، ومجلة طبيبك الخاص التي كانت تحجزها الأسر شهرياً، وتحافظ على مجلة حواء غير المقروءة. من كان يتصور أن دار التحرير توقف إصدار صحيفة المساء التي كانت أهم مصدر دخل يومي للموزعين في أنحاء البلاد، لأنها كانت تبيع 100 ألف نسخة يومياً. فأنا شخصياً كنت أكسب من بيع المساء أكثر من حصيلة بيع كل الصحف مجتمعة معاً".
وأضاف: "كانت الصحف ترسل مفتشيها إلى الموزعين، لمراقبة التوزيع وحسن عرض الصحيفة على الجمهور، وإلزام الموزع بوضعها في مكان مرتفع يراه الجميع بسهولة ووضوح، الآن يرسلون المفتشين لجمع مستحقاتهم اليومية فقط، فلا أحد يهتم بأننا وضعنا الصحف على الأرض، أو تحت أرجل الناس، أو بعيداً في أركان فرشة العرض. حتى سعر الصحيفة، كانوا في الماضي يسألوننا عن قدرة المواطنين على دفع قيمة المطبوعة، أما اليوم فلا أحد يهتم بشكل فعلي بأوضاع المواطنين، فقبل أسبوعين، رفعت صحيفة المصري اليوم سعر الصحيفة من 3 إلى 5 جنيهات دفعة واحدة وبمفردها، من دون أن تفعل ذلك باقي الصحف، فأعرض عنها 50 في المائة من الجمهور دفعة واحدة، وزادت بذلك خسائرنا من التوزيع".
وعلى الرغم من أن الدولة المصرية تتحفظ على أرقام توزيع الصحف القومية والخاصة، فإن كل الموزعين وبائعي الصحف يعرفون الأرقام الحقيقية. وقال فارس: "توزع الأهرام حالياً 50 ألف نسخة يومياً، والأخبار 40 ألفاً، والجمهورية 20 ألفاً، والمصري اليوم 40 ألفاً، والوفد 3 آلاف، والشروق 5 آلاف. وقد كنت منذ سنوات قليلة متعهداً حصرياً للمصري اليوم، أبيع بمفردي 80 ألف نسخة في نصف مساحة القاهرة، نبيع منها الآن 500 نسخة فقط، وكنت أبيع 70 ألف نسخة من الأخبار، واليوم لا تزيد مبيعاتها عن 3 آلاف".
هذا التراجع الكبير في الأرقام ينعكس بطبيعة الحال على مهنته موزعا للصحف: "طيلة عقود ضمت القاهرة 4 متعهدين للصحف، هم ناصر مسعود وحسن فلفل وشبرا وأنا، الأول والثاني توقفا تماماً عن العمل، والثالث في طريقه إلى هجر المهنة، وحالي أمامك يغني عن سؤالي، فأصبحت آخر المتعهدين الكبار الذي يواجه موت المهنة، فالدولة لم تعد تهتم بالصحف، ولا تريد أن تكون لديها صحافة جيدة، وإحساسي الشخصي أنني سأهجر هذه المهنة لأني أواجه خسائر تتراكم شهرياً".