"رفعت عيني للسينما" في "كانّ 2024": وثائقيٌّ عن أحلامٍ مُحرّمة وطموحات مُجهَضة

22 مايو 2024
"رفعت عيني للسما": غوص في بيئة وكشفٌ لحساسيات (الموقع الإلكتروني لـ"أسبوع النقاد")
+ الخط -
اظهر الملخص
- "رفعت عيني للسما" وثائقي يسلط الضوء على حياة ثلاث مراهقات من صعيد مصر يسعين لتحقيق أحلامهن الفنية، متحديات القيود المجتمعية.
- الفيلم يعكس جهد رياض والأمير في التصوير والبحث لأربع سنوات، مبرزاً التحديات في توثيق حياة الفتيات والقضايا المسكوت عنها بالمجتمع المصري.
- يقدم قصص ماجدة، هايدي، ومونيكا بطريقة متوازية، مظهراً تحديهن للقيود بأدائهن الفني وملقياً الضوء على استمرارية الأحلام عبر الأجيال.

 

في الدورة الـ63 (15 ـ 23 مايو/أيار 2024) لـ"أسبوع النقاد"، المُقامة في الدورة الـ77 (الفترة نفسها) لمهرجان "كانّ"، عُرِضَ الوثائقي المصري "رفعت عيني للسما" لندى رياض وأيمن الأمير، المُثير لتساؤلات وقضايا شائكة وشديدة الحساسية، في أكثر من مستوى: ثلاث مراهقات في قرية "البرشا"، إحدى قرى مدينة "ملوي" (صعيد مصر)، ومحاولاتهن متابعة أحلامهن وتطلعاتهن الفنية غير المحدودة.

فيه امتدادٌ بين حكاية ماجدة وشخصيتها وأحلامها، التي ترغب في السفر إلى القاهرة لدراسة المسرح، لتُصبح مُمثلة. إنّها بمثابة قائدة وملهمة ومرشدة لرفيقاتها؛ وحكاية هايدي، عاشقة الباليه، التي تحلم بأنْ تصبح راقصة مشهورة؛ ومونيكا، التي رغم صوتها الجهوري الأجشّ تطمح بشدّة إلى غزو القاهرة وعالم الغناء العربي، لتصير مغنّية مشهورة، لها ألبومات غنائية وثروة ومعجبين.

في السينما الوثائقية العربية، المصرية تحديداً، يندر الاشتغال على موضوع وأفكار وشخصيات محدّدة في سنوات، من دون أنْ يتعلّق الأمر بأسباب تخصّ التمويل ومشكلاته، وصعوبات وعقبات تنفيذ واشتغال، بل برصدٍ مُتمهّل للشخصيات، والاهتمام ببلورة أفكار وتطوّرها وتتبّعها، ورصد تغيّرات طارئة على الفتيات.

هذا أنجزه الثنائي رياض والأمير قصداً، بتسخير وقتهما (عامان) للبحث والتنقيب والتطوير، وأربعة أعوام لتصوير الشخصيات ورصد أحوالها وتبدّلاتها. للأمر وجاهته طبعاً، وأهميته الفنية البالغة وضرورته في توثيق وإيصال فكرتهما بارزتان. وذلك رغم صعوبات وتحدّيات مُتخيّلة بخصوص كسب ثقة هذا المجتمع البسيط، المتحفّظ والمنغلق، والسماح بحضور الكاميرا وفريق العمل، والانخراط بينهم أعواماً عدّة.

الفيلم نظرة فاحصة وجريئة، تغوص في قضايا شائكة ومسكوت عنها في المجتمع المصري، وريف الصعيد تحديداً. هذا لا يقتصر على تناول قضايا متعلّقة بالمرأة، هيمنةً وقمعاً واستخفافاً، ومحاولات محو الشخصية والحضور والاستقلالية، ووأد الأحلام فقط، إذْ يتناول أيضاً شخصيات مسيحية، على قدر كبير من الإيمان والتديّن والالتزام، وفوق ذلك، ينتمين إلى عمق صعيد مصر، حيث التزمّت والانغلاق والتمسّك بالعادات والتقاليد والموروثات. إضافة إلى طبيعة المجتمع القروي، بما فيه من انغلاق وصعوبات عيش، وطبعاً غلبة فقر مُدقع وجهل وبؤس أحوال.

لذا، ركّز المخرجان، في أكثر من مشهد، على تصوير متكرّر لطرقات القرية والحقول، وللبيوت من الداخل والخارج، ولكيفية العيش في ظلّ أوضاع كهذه. وأيضاً، على الحضور القوي للكنيسة، والتردّد عليها، وانتشار صُور القديسين، وكيفية تغلغل الدين في حياة الشخصيات ومفرداتها وكلماتها وتصرّفاتها، وردود أفعال أهل القرية على ما تؤدّيه المُراهقات من فقرات مسرحية في الشارع، ما أثار مسائل إشكالية شديدة الحساسية، تمسّ صميم حياتهم المُتكلّسة. مثلاً: الزواج المُبكر، الإنجاب في سنّ المُراهقة، تربية الأطفال، الأعباء والمسؤوليات، مدى إمكانية الاستمتاع بالحياة في ظلّ عيش كهذا.

رغم وجود عديدات في الفرقة، يُركِّز الفيلم على ثلاثة منهن: المخرجة المسرحية ماجدة (ماجدة مسعود)، والراقصة هايدي (هايدي سامح)، والمغنّية مونيكا (مونيكا يوسف). كما يُرافقهن في خطوطٍ سردية متوازية، ترصد يومياتهن، وتتقاطع عند اجتماعهن معاً للتدريبات، أو لأداء الفقرات المسرحية، أو الجلوس في الحقول للدردشة والتحدّث عن أحلامٍ وطموحات ومستقبل. يظهرن في الشارع لأداء ما يُمكن، مجازاً، تسميته بـ"مسرحيات" أو "تمثيل"، بجسارة شديدة أمام أطفال وسيدات ورجال مدهوشين ومرتبكين ورافضين ما يرونه، وأساساً رافضين أفكاراً تعلن صراحة وبصدق أنّ جسد الفتاة ليست خطيئة، وعن رغبتها في ارتداء ما يروقها من ملابس، ومشكلات الزواج، وغيرها من قضايا استفزازية في ما يخصّ مجتمعاً كهذا.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

في القسم الأول، تأسيسٌ للشخصيات والموضوع، والتعرّف على المراهقات الثلاث، وأحلامهن المختلفة، ومتابعة تكوين الفرقة والتدريبات. هناك أيضاً تعرّف على المكان البائس الذي يجرين فيه تدريباتهن، ومحاولاتهن تطويره، ونجاحهن في الحصول على طاولات يرتجلن منها خشبة مسرح بدائية. يتسم هذا الجزء بحيوية وصراع، ففيه شدّ وجذب بالغين بين طموحاتهن الفنية والقيود المجتمعية الصارمة، والرفض والسخرية في أفضل الأحوال.

منذ البداية، يُلاحَظ عبر الحضور الذكوري سمات عدة بارزة: سخرية شقيق ماجدة من حبّها للفن والتمثيل، ورغبتها في الذهاب إلى القاهرة لدراسة المسرح. حضور خطيب مونيكا، وزوجها اللاحق، وحديثهما معاً عن وعده لها بالذهاب إلى القاهرة ومساعدتها في احتراف الغناء، ومدى استهانته بحلمها وطموحاتها، وإيهامها بمساندتها، وفي النهاية يخدعها فنتبخّر وعوده، ثم إتمام الزواج وتنفيذ رغباته. في مقابل نقاشهما الهادئ، هناك نقيضه تماماً بين هايدي وخطيبها الجديد المُغرمة به، الذي شكّل ارتباطها به نقطة انقلاب في حياتها، ضد الفن وحب الباليه، وضد صديقاتها. المُثير للغاية أنّ والد هايدي بالغ الهدوء والانفتاح والتسامح، ومشجّع لها، ومؤنّب إياها لابتعادها عن المسرح والفرقة وصديقاتها ورغباتها وطموحاتها.

نموذجٌ غريب جداً في الفيلم، مُقارنة ببقية الشخصيات الذكورية المُنغلقة المُتسلطة، وبصفة عامة، باعتباري أباً ريفياً صعيدياً مسيحي، لا يهمّه سوى سعادة ابنته. هذا أوجد توازناً درامياً للسياق.

رغم أنّ المشهد الأخير يمنح عزاءً لماجدة وهايدي ومونيكا، إذْ تسير فتيات صغيرات أخريات على دربهن لتقديم عروض مسرح الشارع، والإيحاء أنّ هناك استمرارية وتواصل أجيال، لا تستند الخاتمة السعيدة على أي خلفية واقعية وحقيقة ملموسة، تتجاوز كونها مُجرّد أحلام مُتصَوّرة، ورغبات مرتجاة، وأمنيات جامحة لدى ندى رياض وأيمن الأمير.

المساهمون