- تواجه تسويق الأفلام تحديات بسبب متطلبات المنصات الكبرى مثل "نتفليكس"، مما يحد من الإبداع، على الرغم من نجاحات معينة في قنوات مثل "كانال بلوس".
- الإنتاج المشترك يعد حلاً لتحديات التمويل، مع التأكيد على أهمية التعاون بين منتجين من دول مختلفة لتجاوز القيود التقليدية للإنتاج والتوزيع.
(*) ماذا عن الروتين اليومي لك؟ أسلوبك في الكتابة؟ كيف تأتيك الأفكار؟ هل تتأمّل الناس، فتخرج إليهم لمُشاهدتهم؟
الفضل في ذلك ربما يعود إلى دراستي علم الاجتماع، لا السينما. الدراسة جعلتني أشعر بالمواضيع المُلحّة التي تفرض نفسها، وتكون في حالة استعجال. مثلاً، فكرة "السنونو لا يموت في القدس" جاءت بعد الانتفاضة الأولى: عائلة فلسطينية ضاعت الأم عنها، عام 1948. كتبتُ "جزيرة الغفران" عام 1992. لكنْ، بعد تجربة المتديّنين في تونس، شعرتُ أنّ مشكلة التعايش وقبول الآخر موضوع مهم. بخصوص "شمس الضباع"، كانت السياحة في تونس السياسة الأساسية للدولة، وإنْ دُمِّرت قرى وبنى تحتية.
الاستعجال والإلحاح والحالة الراهنة أمورٌ تجعلني أختار مواضيع معيّنة. لديّ مواضيع كثيرة جاهزة، 12 سيناريو. فعندما لا يكون للمرء عملٌ سوى الكتابة ومشاهدة الأفلام، يُفترض به أنْ يكون لديه عدد كبير من المشاريع، وعدد أكبر من الأفلام التي يُفترض به أنْ يُصوّرها.
(*) أتُفضّل الجمع بين الكتابة والإخراج والإنتاج؟
نعم، لكنّي لن أُنتِج فيلمي المقبل لأنّي أفلست. لا مال لديّ للإنتاج.
(*) لماذا لا تستطيع تسويق أفلامك، مع وجود قنوات فضائية ومنصّات عدّة؟
"السنونو لا يموت في القدس" تمّ تسويقه في "كانال بلوس" و"القناة الثانية" الفرنسيتين، اللتين دفعتا مبلغاً جيداً، 500 ألف دولار أميركي، لكنّي لم أستطع تسويق الأفلام الأخيرة. المشكلة؟ منصّات كـ"سوني" و"أمازون" و"نتفليكس"، لديها طلبات معيّنة، ومواضيع معيّنة، وطريقة عرض معيّنة أنا أرفضها. السينما تحتاج إلى استقلالية، نوعاً ما، ولا تتماشى مع "ستايل" و"كتالوغ" موحّد للمنصّات التي تريد من الجميع تطبيقه، ولا تترك حرية الإبداع للمخرجين. أنا أرفض ذلك. إضافة إلى أنّي لا أملك "لوبي" أو "شلّة"، ففي السينما العربية، لا بُدّ أنْ يكون معك أو إلى جانبك فردٌ أو مجموعة، وإلاّ فلن تَصِلي.
(*) ما شروط هذه المنصّات؟ "نتفليكس" مثلاً؟
لديها صيغة جامدة ـ ثابتة في طرح المواضيع. مثلاً، "زهرة حلب". في البداية، وافقت منصة عليه، ثم رفضته، ثم قبلته، من دون أنْ أفهم لِمَ هذا التردّد كلّه. حتى عندما تُنظِّم ورش كتابة، يتمّ هذا وفق نظام وأسلوب وبناء معيّن، وأهداف وأفكار محدّدة، فيُصبح الفيلم التونسي شبيهاً بالمغربي، والمغربي بالمصري، لأنّ طريقة التناول متشابهة، ما يجعل الفيلم طبقاً بارداً، نوعاً ما.
(*) لنَعُد إلى الإنتاج المشترك. كيف تحصل على التمويل؟ لأنّه، رغم ما يُقال عن سلبياته ومخاطره وأجندته، يبدو لي أنّ هذا حرّرك من منظومة الإنتاج التقليدية؟
ليست هناك أجندة. "شمس الضباع" أُنتج مع هولنديين، وأنا المنتج الرئيسي. هناك منتجان ألماني وكويتي. في "السنونو لا يموت في القدس"، شاركت "قنال بلوس" مع تونس لإنتاجه.
(*) لكنّك بدأت في مرحلة لم يكن الحصول على التمويل سهلاً. أتذكّر تجربة يوسف شاهين، المغلقة عليه وحده، وعلى عدد محدّد من تلاميذه.
بدأت قبل شاهين في موضوع الإنتاج المشترك.
(*) هل أنت من فتح له هذا الباب؟
لا أقول هذا أبداً. شاهين وعلاقته بجاك لانغ، وزير الثقافة في فرنسا، وتاريخه مع مهرجان "كانّ"، مسائل أعطته اسماً ومكانةً. ما أقوله، هو أنّ رضا الباهي وزّع "إسكندرية ليه" و"باب الحديد" لشاهين في باريس. مؤكّدٌ أنّ هذا ساعد في التعريف بكيفية طرق أبواب الإنتاج المشترك، لكنْ لا يُمكن نسيان أنّ اسم يوسف شاهين وصداقته بالمنتجين وعلاقته بمهرجان "كانّ" أمور دعمت قدرته في الحصول على تمويل مشترك لأفلامه. قبل هذا، أنجزت "شمس الضباع" و"العتبات الممنوعة" مع هولنديين وفرنسيين.
(*) إذاً، كيف بدأت خطوتك الأولى؟ فـ"شمس الضباع" كان ممنوعاً في تونس. كيف اهتديت إلى فكرة الإنتاج المشترك؟ وكيف نجحت في أنْ تخطو واقعياً؟
بفضل الفيلم السابق عليه، أي "العتبات الممنوعة". عندما حصل على "جائزة النقاد العرب" في "أيام قرطاج السينمائية"، وكتب عنه سمير فريد، ثم حصلتُ بفضله على الجائزة الأولى في "المهرجان الفرنكوفوني في بيروت"، وكتبت الصحف الفرنسية، ومنها "لو موند" عن رضا الباهي والمنع الذي يتعرّض له؛ بفضل هذا كلّه تواصل معي هولنديّون، وسألوني: "هل لديك مشروع جديد؟". أجبتهم بـ"نعم"، فقالوا: "لنبدأ".
(*) إذاً، النجاح والدعم النقدي للفيلم الأول فتحا لك باب الإنتاج المشترك، رغم أنّ الفيلمَ ممنوع حينها في تونس، وكنتَ أنتَ أيضاً ممنوعاً من التصوير في بلدك.
اختير "شمس الضباع" في مهرجان "كانّ". المنع والسُّمعة الطيبة للفيلم الأول فتحا لي أبواب "كانّ"، وعُرض الفيلم في صالات فرنسية 22 أسبوعاً، وشاهده 150 ألف متفرّج في باريس.
لكنْ، إلى الآن، لم أقدّم شيئاً للحصول على منح من مهرجانات، كـ"الجونة" و"البحر الأحمر". لا أدخل في هذه اللعبة. هناك "لوبيّات" أقوى منّي. لا أريد هذا.
(*) هناك دائماً فريقان، يتناقض أحدهما مع الآخر، ضد الإنتاج المشترك. أعتقد أنّك استفدت من الإنتاج المشترك، لأنّك لم تسمح لهم بالسيطرة عليك، وبفرض أجندة معينة عليك. كيف نجحت في هذا؟
لأنّي أتعامل مع منتجين أفراد مثلي، لا رؤوس أموال معهم، ولا يريدون تحقيق مكاسب، لكنّهم يفكّرون في السينما أولاً. لاحظي أنّ أفلامي ليست من نوعٍ يربح ويُحقّق مكاسب. هؤلاء منتجون أصحاب أفكار، يبحثون عن أموال، يُدبّرونها ويديرونها. قراري أنّ هذا المنتج، ما دام أنّه لن يفرض عليّ رأيه، أحقّق معه شراكة.
(*) درست علم الاجتماع في البداية، أم بعد السينما؟
بدأت السينما عندما بلغت 16 عاماً، حين صنعتُ أول فيلم.
(*) اهتمامك بالسينما بدأ باكراً جداً.
باكراً جداً. في القيروان، بفضل الخبرة التي صارت في تونس مع سينما الهواة ونوادي السينما، التي تكاد تكون الوحيدة في العالم، تفتّحت عينا المراهق الذي كنته على نوادي السينما. كان لي حظٌّ أنْ أحصل على كاميرات من سفارات أجنبية، روسيا وأميركا وتشيكوسلوفاكيا. كنت أحصل منها على الخام، وأصنع أفلاماً قصيرة. عندما وصلت إلى صفّ البكالوريا، كان لديّ أول فيلم، "المرأة التمثال". ثم، عندما سافرتُ إلى باريس للماجيستر، كتبت سيناريو "العتبات الممنوعة". وبفضل كتابات سمير فريد وسامي السلاموني، دُعِم الفيلم، وفُرٍض على المهرجانات، رغم أنّه ممنوعٌ في تونس. هكذا أنا دائماً، أبدأ بكلّ بساطة، وأتشبّث دائماً بأفكاري وأحلامي.
(*) ماذا كان موقف الأسرة؟ أنت اخترت السينما باكراً جداً. لم يكن هناك وعي بأهمية السينما، ولم تحظَ بالاحترام والتقدير.
بالنسبة إلى والدي، طالما أنّي حصلت على الدكتوراه، وأكملت تعليمي قبل "شمس الضباع"، فلا مشكلة لديه. كلّ ما يهمّه أنْ أحصل على الشهادة.
(*) ضحّيت كثيراً من أجل السينما. انفصلت عن زوجتك، وبعتَ أرضك لتمويل أفلامك. بعد هذه الأعوام كلّها، والمشوار الطويل مع السينما، هل تشعر أنّها كانت تستحق هذه التضحيات؟
الموضوع ليس السينما، بل حلمي بصنع أفلام. حلم أجري وراءه، ومن أجله ضحّيت. ليست السينما بحدّ ذاتها. ما أقصده، أنّ السينما تجلب أشياء حلوة وأخرى مُرّة، لكن السينما ليست السبب. أنا المسؤول. اختياراتي سببٌ، فأنا لا أحبّ تعليق أشيائي على ظروف أو محيط، ولا أضع مبرّرات. كلّ شيء بسببي أنا. الأشياء الحلوة منّي، والسيئة منّي أيضاً، لأنّي لم أستطع الاختيار الصائب، مع شريك وتوقيت وأسلوب.
عيبٌ أنْ يرمي الفردُ الخطأ على آخر أو على السياسة. بالتأكيد، كلّ واحد من هؤلاء يتحمّل مسؤوليته، لكنّي أنا المسؤول الأول والأخير، في الحلو وغير الحلو.
(*) أول فيلم لك منجز عام 1972. إلى الآن، أخرجت 10 أفلام، فالمسافة بين فيلمٍ وآخر طويلة جداً. في هذه الفترة الزمنية كلّها، ماذا كنت تفعل بين فيلمٍ وآخر؟
كنت أقرأ كتباً، وأصنع أفلاماً وثائقية، وأكتب سيناريوهات. في الأعوام الـ10 الأخيرة، أدرّس السينما وصناعة أفلام التخرّج للطلبة.
(*) هل يُحقِّق لك التعامل مع الطلبة نوعاً من الرضى؟
هذا شعور بأنّ ما تعلّمتُه لن يذهب هدراً أو هباءً، لأنّ مسؤولية الجيل الذي سبقني لم تكن صنع أفلام فقط. الإنسان، في مرحلة ما، يُصاب بالخرف، فالعمر لا يؤتمن عليه. مثلاً: الأفلام الأخيرة لفيلّيني لم تعجبني، ولم تعجب أحداً، لأنّه أُصيب حينها بالخرف. بوصفي صانع أفلام، أحكي وأعطي تجربتي للشباب. أنا مؤمن بهذا التواصل بين الأجيال.
(*) ماذا عن حلمك في الأعوام المقبلة؟
أن أواصل المشوار. عندي فيلمٌ جديد أعمل عليه الآن. هناك آخر عن "رسالة الغفران" للمعرّي، يحكي عن صداقة بين عزرائيل ومخرج يطلب منه تمديد عمره حتى يُكمِلَه، ويصلح أموره، فيصبحان صديقين. يحاول عزرائيل الصعود للحصول له على رخصة. فيلمٌ كوميدي.
(*) ما قصة" زنوبيا"، فيلمك الحالي؟
إنّه عن البيئة. من المواضيع الحسّاسة الآن: النفايات المقبلة من أوروبا، لدفنها في أفريقيا. أحداثه تحصل في سيارة شحن اسمها "زنوبيا"، تأتي من هولندا، وتمرّ بتونس أو المغرب، بحسب الدولة التي ستشارك في إنتاجه. ثم تغادر إلى الصحراء، إلى أفريقيا السوداء، لدفن النفايات. انتهيتُ من السيناريو. جزءٌ من الإنتاج مضمون، وأبحث الآن عن المتبقّي من الميزانية.