- **عرض الأفلام في المهرجانات الدولية**: عُرضت الأفلام في مهرجانات مثل "كانّ" و"عمّان السينمائي الدولي"، مما أثار مشاعر التأثر والأمل وجذب انتباه الإعلام العالمي، وساهم في توعية الجمهور بمعاناة الفلسطينيين.
- **تجربة الإشراف والتنوع الفني**: أشرف رشيد مشهراوي على المشروع، وساهم في تطوير قدرات المخرجين الشباب، الذين تنوعت أفلامهم بين الدراما والغنائية والتحريك، مع تقديم الدعم الفني والتقني لهم.
شاب يطلب الكفن المخصّص له ليفترشه، فيفيد منه في حياته قبل موته، في "جنّة الجحيم" لكريم سطوم. سينمائي شابّ يكسر كْلاب التصوير ليحرقه، ويطهو قوت يومه في انعدام الغاز والحطب، في "عفوا سينما" لأحمد حسّونة، وفيه أيضاً مشهدٌ مؤثّر لسقوط الإعانات عبر المظلّات، من وجهة نظر الذين يتسابقون للحصول عليها. أمّا "إعادة تدوير"، لرباح خميس، فيلتقط بانزياح إشكالية أزمة شحّ المياه، من خلال دورة استغلال سطل ماء في الاستحمام وغسل الثياب، ثم نظافة المرحاض. شاب ينجو في يوم واحد من ثلاث عمليات قصف، بعد أنْ ينتقل إلى أماكن يظنّ أنها آمنة، لكنّ القصف الأخير يودي بوالديه وأفراد من عائلته، تاركاً في جسده وروحه رضوضاً يصعب أنْ تندمل، في "24 ساعة" المذهل.
في فيلم التحريك "جلد ناعم"، ينبري خميس مشهراوي لتداعيات الحرب النفسية على الأطفال، عبر قصة استيقاظ صغيرة في عزّ الليل لتمحو الاسم الذي كتبته أمها على ذراع أخيها، ليتمكن أخيراً من النوم، في إشارة إلى إقدام الأمهات على خطّ أسماء الصغار على أطرافهم، للتعرّف إليها في حالة قضائهم تحت القصف، وجمع أشلاء جثثهم.
كلّ هذا صُورٌ ووضعيات من بين "كاليدوسكوب" كثيف وُمعبّر، احتوى عليه 22 فيلماً قصيراً في مبادرة "من المسافة صفر"، بإشراف المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، صوّرها 22 مخرجة ومخرجاً في الحرب الدائرة حالياً في قطاع غزّة، وتتنوّع بين وثائقي وتخييلي وتجريبي، وتحريك بالدمى والرسوم، لتنقل إلى العالم معاناة الغزيين وتمسّكهم بالحياة، عبر شخصيات حيّة، لكلّ منها قصّة وتجسّدٌ مختلفين، بعيداً عن تناول إعلامي مسكوك عادة، ينحو إلى الإثارة، فيحصر خسائر الحرب في أرقام وإحصاءات، ولا يلتفت كثيراً إلى الخراب الداخلي الناجم منها، فينتهي بتجريد الضحايا من بُعدها الإنساني.
بعد بثّ مقتطفات من الأفلام في لقاء إعلامي، على هامش الدورة 77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ" السينمائي، عُرضت أفلام المبادرة كلّها (مدّتها الإجمالية 100 دقيقة) رسمياً في قسم "إضاءة"، في الدورة الخامسة (3 ـ 11 يوليو/تموز 2024) لـ"مهرجان عمّان السينمائي الدولي ـ أول فيلم". وبعد العرض الثاني، في الهواء الطلق في "الهيئة الملكية الأردنية للأفلام"، نوقشت لأول مرة، في جوّ مهيب، اختلطت فيه مشاعر التأثّر بفداحة الخسران والأوضاع المعيشية الصعبة في القطاع، بإحساس أمل منبعث من بعض الأعمال، كـ"لا" لهناء عويضة، التي تتمسّك بالرغبة في الغناء والابتسامة ورفض كلّ مكدّرات الحياة، و"خارج الإطار" لنداء أبو حسنة، الفنانة التشكيلية التي تزور ورشتها بعد تعرّضها للتدمير، مزيلةً الغبار المتراكم على اللوحات، وملتقطة مجسّمين لحمامتي سلام مرصّعتين باللؤلؤ.
في هذه المناسبة، حاورت "العربي الجديد" رشيد مشهراوي، الذي نشأ في "مخيّم الشاطئ" في قطاع غزّة، في عائلة أصلها من يافا.
(*) التفكير في إنجاز أفلام ليس بديهياً أبداً بالنسبة إلى أناسٍ يعيشون في حربٍ وقصف همجي مستمر، كما يُلمّح إلى ذلك "عفواً سينما" لأحمد حسّونة. ماذا كانت الشرارة الأولى التي أطلقت فكرة إنجاز المشروع؟
عادة، بصفتي مخرجاً سينمائياً فلسطينياً يتحدّر من غزة، عندما تندلع حربٌ في فلسطين، وتحصل كوارث إنسانية مرتبطة بها، تصدر عني ردّة فعل طبيعية، فأصنع فيلماً قصيراً أو طويلا، تخييلياً أو وثائقياً، وأحاول عرضه في العالم، موثّقاً ما يجري بالصوت والصورة.
هذه المرة، كانت الكارثة كبيرة. حجم الخوف والعدوان والدمار عظيم وكابوسي. نتحدّث اليوم عن أكثر من 40 ألف شهيد، وأكثر من 10 آلاف لا يزالون تحت الأنقاض، وأكثر من مليون لاجئ، لو أرادوا الرجوع إلى منازلهم اليوم لما استطاعوا، لأنّ نصف سكّان غزة لم يعد عندهم بيوت تؤويهم. هذا كابوس حقيقي. قلتُ لنفسي إنّه ينبغي إعطاء فرصة لسينمائيين شبان وشابات موجودين في غزة، لأنّهم هم الموضوع والحكاية. هم أصدق وأحقّ أناس بأنْ يصنعوا أفلاماً لمخاطبة العالم.
بحكم تجربتي وعلاقاتي، في السينما والمهرجانات، مع زملاء سينمائيين من العالم، أستطيع أنْ أشكّل جسراً بينهم وبين المخرجين الشباب، لتخرج أفلامهم إلى النور، وتُبرمَج وتُعرض، وقبل ذلك يُتاح لها إشراف فنّي وتقني، وتُترجَم إلى الإنكليزية والفرنسية.
اشتغلنا نحو ثمانية أشهر بشكل متواصل، ليلاً ونهاراً، من دون عطلة نهاية أسبوع، ولا يزال الشغل متواصلاً.
(*) كيف اختير المخرجون الشباب؟ هل كنت تعرفهم قبلاً، أم أُعلِن عن مشاريع واختيروا بناء على مسارهم ونصوص سيناريوهاتهم؟
لم نضع شروطاً معقّدة بمفهوم أنّ على المخرج تقديم سيرة ذاتية، أو أن له أعمالا مهمّة عرضها سابقاً في مهرجانات. كانت هناك استراتيجية واضحة، ترتبط بكون التلفزيون كان يبثّ، على مدار الساعة، أخباراً عن غزة، فشَاهد الناس أشياء كثيرة تتعلّق بالحرب والدمار الجاري فيها. من خلال مبادرة "من المسافة صفر"، سعينا معاً إلى نقل الحكايات التي لم تُروَ، وعزمنا على سردها سينمائياً، ليس بشكل ريبورتاجات أو تقارير صحافية، بل في أعمال فنية. لذا، بحثت المبادرة عن مخرجين موهوبين، وإنْ كانوا مبتدئين ينجزون أول فيلم لهم، لكنّهم قادرون على إخراج أفلام. سعت المبادرة إلى أنْ تكون الأفلام نفسها قابلة للتنفيذ في الظروف الصعبة التي تعيشها غزة.
إذا كانت فكرة الفيلم تنتمي إلى "الحكايات التي لم تُحْكَ"، والمخرجة والمخرج قادرين على صنعها، والفكرة نفسها قابلة للتنفيذ، نبدأ العمل عليها. بناء على هذا، حدّدنا لائحة الأفلام والمخرجين. طبعاً، كنتُ أعرف بعضهم بحكم اهتمامي، بينما لم أكن أعرف آخرين، لكنّنا مرتبطون بطاقم يشتغل على الأرض في غزة، أجرى اتصالات، واقترح أشخاصاً يمكنهم إنجاز أفلامٍ، فوصل إلينا منها عددٌ أكبر مما كنا نتوقّع. كنّا نخطط لإنجاز 20 فيلما، فانتهينا بإنجاز 22. حالياً، ونحاول الاشتغال على مشاريع إضافية.
(*) كيف حصل التنوّع الحاضر في الأفلام بين الوثائقي والتخييلي، وأنواع تختلف من الدراميّة إلى الغنائية، كـ"لا"، أو منزاحة كفكرة "إعادة تدوير"؟ هناك أفلام تحريك تحتاج إلى وقت طويل لصنعها، رغم أنّ طبيعة المبادرة استعجالية للغاية.
أولاً، لم نكن نتوقّع أنْ تمتدّ الحرب إلى عشرة أشهر. بدأنا الاشتغال مع انقضاء الشهر الأول، وكنا نعتقد أنّ الأمر لن يتجاوز شهرين أو ثلاثة أشهر، نعطي خلالها فرصة إلى شبابٍ غزيين لتحقيق شهاداتهم عن الحرب. وجدنا أنفسنا، مع توالي العمل على خلفية تواصل الحرب، نصل إلى ثلاثة أشهر، ثم ستة، فعشرة اليوم.
من جهة أخرى، طبيعي جداً أنّ المخرجين الغزيين مختلفون عن بعضهم البعض في مقارباتهم الفنية. بما أنّنا حرصنا على أنْ تنطلق الأفكار من عندهم لا من عندنا، تنوّعت الاقتراحات بين من ينوي إنجاز فن فيديو، وآخر يعتزم إنجاز فيلمٍ بحساسية تشكيلية، وثالث مخرج مسرحي يصنع عملاً من منطلقه الخاص، ورابع تلفزيونيّ أصلاً، لكنّنا رافقناه ليحقّق عملاً سينمائياً.
تنوّع الأفلام نابع من اختلاف المخرجين والمخرجات، وتعدّد اهتماماتهم.
(*) ما طبيعة الإشراف الذي قدّمته إلى الشباب؟ أهناك مقاربة محدّدة للاشتغال معهم، أمْ أنّ الأمر اختلف بحسب موهبة كل واحد منهم وخبرته، بين من لم يكن محتاجاً إلى مرافقة، ومن كان بحاجة ملحّة ومستمرة لها؟
هم بالفعل متفاوتون في الموهبة والتجربة. هناك محترفون أنجزوا سابقاً أفلاماً، كأحمد حسونة ومحمد الشريف، مخرجَي "عذراً سينما" و"بدون إشارة". هؤلاء قدّموا أفلاماً جاهزة، بعضها مع موسيقى تصويرية. لكنّ هذا لم يمنع من إشراف وحوار معهم حول أفلامهم. هناك مخرجون آخرون لم يكونوا يستطيعون ذلك، حتى لو توفّرت عندهم القدرة الفنية والتقنية، بسبب الكهرباء وأجهزة الشغل، فكنّا ننجز معاً المونتاج عن بُعد. يشاهدون نسخة، ثم نتحاور حولها، إلى أن نبلغ النسخة النهائية.
ليست الموهبة وحدها الحَكَم. أحياناً، هناك إمكانات الشخص في غزة والوضع الذي يعيشه. لم يكن هناك قانون محدّد ينطبق على كلّ الأفلام. كلّ عمل حالة مختلفة، من ناحية الإمكانات المتاحة، والأجهزة المستعملة، وتجربة المخرج/المخرجة. هناك سينمائيون آخرون في تواصل مع المخرجين الشباب ميدانياً، ينصحونهم ويهتمّون بتسجيل صوت، أو اقتراح بداية أو نهاية مختلفة، لأنّ للمشروع أيضاً بُعداً تدريبياً يسعى إلى تطوير قدرات السينمائيين.
(*) العرض في مهرجان "كانّ الـ77" محطة مهمّة، ولو أنّ المهرجان لم يمنح للمبادرة المكانة التي تستحقها في البرنامج، لكنه جعل كثيرين يتحدّثون عنها وعن جهودكم الذاتية لعرضها. ما خلاصة سعيكم إلى عرض الأفلام في "كانّ"؟
أنا بادرتُ بفكرة تنظيم عرض في مهرجان "كانّ" بالطريقة التي حدثت، لأنّي بصفتي سينمائيا عرضت سابقاً أفلاماً لي في هذا المهرجان، وحصلت على جائزة، وأعرف جيداً ماذا يعني مهرجان "كانّ" وأهميته وحجمه، في فرنسا وأوروبا، كما في السينما العالمية. إذا قرّر المهرجان ألاّ يذهب إلى غزة، فستذهب غزّة إليه. كان هذا شعارنا. إذا لم يرغبوا في أنْ يسمعونا ويرونا، سأعمل على حصول العكس. لذا، كان للحدث طابعٌ إعلامي يقول "نحن هنا" بصفتنا فلسطينيين، وغزيين، وسينمائيين. كان مهمّاً دعوة إعلاميين ليروا سينمائيي غزة يحكون قصصهم، ولو عن طريق مقاطع من أفلامهم. هذا حدث فنّي عالٍ أُقيم في خيمة تشبه خيم غزة ورفح. هكذا كانت الأجواء. لذا، أنا سعيد، ليس بالحرب ولا بتداعياتها المدمّرة علينا نحن الفلسطينيين، بل بالنتيجة الإعلامية التي حقّقناها من عرض الأفلام هناك.
(*) كيف تلقّت المهرجانات الدولية الأخرى أفلام المبادرة؟
كلّ المهرجانات العربية تودّ عرض هذه الأفلام، التي ستُعرض في الرّباط والدار البيضاء، بانتظار مواعيد مغربية أخرى. أيضاً في مصر وتونس والجزائر، ودول عربية عدّة. العالم الأجنبي ينقسم إلى نوعين: الأول مُستعدّ لفتح الأبواب كلّها، وإعطاء الإمكانات كلّها، وإلقاء الأضواء عليك، ووضعك في برنامج مهمّ يخلق صدى ونقاشات. الثاني لا يودّ التعامل مع منطقتنا بأي وسيلة، وعليه تأثيرٌ وضغوطٌ في هذا الاتجاه، لأنّه يحصل على تمويل من جهات داعمة لإسرائيل، ويقع في دول لم يتكوّن لديها بعد وعيٌ بما يجري في المنطقة، وماهية الحرب، لأنها تعتمد على الإعلام الإسرائيلي وأخباره، فيعتقدون أنّ الفلسطينيين جميعهم ينتمون إلى حركة "حماس"، أو يتبنّون قصص إرهاب. هؤلاء هم من نحن بصدد الوصول إليهم، اليوم وفي المستقبل القريب، ونركّز عليهم أكثر من الآخرين. من يؤيّدنا لا يحتاج إلى جهدنا. لذا، علينا تركيز اشتغالنا على توعية الموجودين في مناطق أخرى من العالم.
(*) كيف عشت عرض الأفلام في "مهرجان عَمّان"، ونقاشها لأول مرّة؟ ما العروض السابقة التي أثّرت فيك؟
أكثر العروض تأثيراً إلى الآن عرض "كانّ"، نظراً إلى حجمه وتغطيته الإعلامية. هنا في عَمّان، تمّ العرض الأول الرسمي للأفلام، وهذا مهمّ ومؤثّر أيضاً. هناك عروضٌ أخرى، أحدها في مهرجان "تاورمينا" الكبير في إيطاليا (برنامج "تبئير على البحر الأبيض المتوسط"، في دورته الـ70 المُقامة بين 12 و19 يوليو/تموز 2024 ـ المحرّر). أمس، حدث عرض في سراييفو. قريباً جداً، هناك عروضٌ على نطاق واسع للأفلام.