لا تكتمل سيرة الفن اللبناني المعاصر، من دون التوقف عند تجربة الفنان روميو لحود (1930 ــ 2022) في التلحين والمسرح. فبينما كان الأخوان رحباني يسيطران على المشهد الموسيقي اللبناني، تسللت إلى الساحة تجارب كثيرة، عرفت كيف تجد لنفسها مكاناً، وسط الهيمنة الرحبانية. زكي ناصيف، على سبيل المثال، صنع لنفسه حيثية لبنانية وإرثاً موسيقياً مستمراً حتى اليوم. كذلك فعل روميو لحود الذي رحل الثلاثاء عن 92 عاماً.
في مدينة جبيل الساحلية وُلد لحود، وبدا مسحوراً بالفنون على اختلاف أنواعها منذ نشأته، فبدأ دراسة هندسة الديكور، لكن عشقه للمسرح أخذه إلى إيطاليا، حيث تخصص في علوم المسرح. حاول لحود دمج شغفين في إنتاج واحد: المسرح والموسيقى. شغف وصل سريعاً إلى العالم، فقدم عروضاً عام 1969 على مسرح أولمبيا في باريس، ثمّ تنقل في أكثر من عاصمة عربية وغربية.
حبّه للمسرح والموسيقى جعله يعبر بسهولة نحو عالم صناعة الأغاني، فكان أحد المساهمين في صناعة صورة الأغنية اللبنانية منذ السبعينيات. صورة أرادها مختلفة عن تلك التي قدّمها مجايلوه، أي الرحابنة وزكي ناصيف، ثمّ ملحم بركات، وغيرهم كثيرون ممن رسموا خريطة الأغنية المحلية، في حقبة كان الخروج من التأثير الموسيقي المصري في العالم العربي مستحيلاً.
صنع روميو لحود من الفنانة الراحلة سلوى القطريب منافسة حقيقية على ساحة الغناء اللبنانية، وقدّم لها ألحاناً هي الأنجح، حتى اليوم، حيث أعادت فنانات كثيرات تقديم تلك الأغاني. واعتمد في موسيقاه على جمل جديدة، مستقياً ألحانه من ثقافة شعبية قائمة على الفولكلور اللبناني، إلى جانب ثقافة أوروبية وظفها لأجل التجديد في الأغنية اللبنانية، فكان المزج بين النوتة الشرقية والسلم الغربي بتقنيات جديدة وأصوات متنوعة، أبرزها إلى جانب سلوى القطريب، الراحلة صباح.
ولعل أشهر الأعمال التي ألفها تبقى: مسرحية "بنت الجبل" (1977) بطولة سلوى القطريب، ومسرحية "سنكف سنكف" (1974)... بينما اكتسبت الأغاني التي قدمها في مسرحيات وأفلام مختلفة شهرة مستمرة حتى اليوم، أبرزها "قالولي العيد بعيوني" التي قدمتها سلوى القطريب وأعادت تقديمها إليسا، و"يا بو السواعد" التي غناها عبده ياغي، و"خدني معك على درب بعيدة" التي غنتها القطريب، ثمّ أعادتها كارول سماحة، و"أنا الوالي" التي قدمها ملحم بركات. تطول اللائحة التي تضمّ أغاني معروفة وأخرى بقيت في الظل لأسباب كثيرة، بينها بشكل أساسي عدم سعي روميو لحود للأضواء الإعلامية. فكل من عمل معه، يعلم أن الرجل كان يؤلف ويلحن ويخرج بصمت، من دون ضجة إعلامية أو فنية.
طوال ستين عاماً عرف لحود كيف يميز نفسه عن الإنتاج الفني الموجود على الساحة المحلية، تنافس وتعاون مع الرحابنة، وصنعا معاً مشهداً موسيقياً متوازناً في لبنان، وإن مالت الكفة في أغلب الأقوات لمصلحة الأخوين. لكن مع مرور السنوات، وانحسار أثر الرحبانة على صعيد الإنتاج المسرحي إثر رحيل عاصي، وابتعاد منصور لفترة عن المشهد، بقي روميو لحود موجوداً، محاولاً خلق مساحة خاصة للأغنية اللبنانية في ساحة عربية بدأت تدخل مرحلة اضطراب في الهوية، كترجمة فعلية للاضطراب السياسي الذي عرفته المنطقة.
لكن رغم هذا الاضطراب، بقيت سيرة روميو لحود طيبة عند كل من تعامل معه، يذكر ملحم بركات في مقابلات عدة، أن عمله مع لحود أعطاه حرية جعلت منه في وقت لاحق نجماً، بينما عمله مع الأخوين رحباني حصره في إطار معين.
في حديث سابق مع كاتب هذه السطور، قال روميو لحود إنه يثمن تجارب رواد المسرح اللبناني الغنائي، لكنه يختلف بجملته عن هؤلاء جميعاً، متحيزاً إلى الفنان الراحل فيلمون وهبي، واصفاً اياه بـ"معلّم الكل". الحديث جاء بمناسبة عودته إلى تقديم الأعمال المسرحية، مع "طريق الشمس" (2014) بعد انقطاع لأكثر من عقد.
هذا الانقطاع كان سببه الأول رحيل سلوى القطريب، قريبته ورفيقة دربه الفني، عام 2009. قال وقتها: "أحببت أن أبتعد قليلاً كفترة استراحة، وسافرت كثيراً بعد وفاة زوجتي (ألكسندرا القطريب، شقيقة سلوى) التي تمنت قبل موتها أن أعود إلى المسرح، وكان ما أرادت من خلال (أرض الشمس)". وتابع لحود: "جلست وحيداً لفترة من الوقت، واليوم قررت العودة".
في "أرض الشمس" جمع روميو لحود مجموعة من الوجوه التي جاءت أدوارها ملائمة لشخصيتها، ومنهم الفنانة ميكاييلا، وبييريت القطريب. كذلك كشف عن موهبة واعدة، أداءً وصوتاً، أي الفنان جاد القطريب الذي كان آخر اكتشاف للحود، ومن مدرسته الخاصة.
مع انطلاق مسرحيته الأخيرة، قال لحود: "الزمن اختلف موسيقياً لجهة التوزيع والآلات الموسيقية التي كانت حيّة في القرن الماضي، وتحولت اليوم إلى كمبيوتر يعمل، وكذلك الإيقاعات، وهذا ما يبعد اللبناني أو العربي عن التراث، ومن ليس له تراث لا مستقبل له. جميل ما نسمعه، لكنه لا يشبه ما قمنا بإنتاجه في ذلك الزمن، هي تغيرات العصر، لست ضدها، لكن التكنولوجيا يجب أن تماشي الحضارة".
رحل روميو لحود صباح الثلاثاء، تاركاً إرثاً سيذكر عند التأريخ للأغنية اللبنانية، وللمسرح اللبناني الغنائي، الذي يتجه نحو الاندثار مع رحيل آخر رواده، وغرق البلاد في أزمات تجعل أي إنتاج حقيقي مهمة شبه مستحيلة.