جاءت طالبة ريفية إلى العاصمة تونس للإقامة فيها. تتجوّل ليلاً رفقة مناضل ثوري فقير، في منطقة راقية. تضبطهما الشرطة، وتحوّل حياتهما إلى جحيم. هذا في "على كفّ عفريت" (2017)، للتونسية كوثر بن هنية. يقطع الأب صلته بابنته، لأنّها أصبحت عاراً، والخطأ خطأها، ولا مسؤولية على الشرطة. صُوِّر الفيلم بعد أعوام على حرق محمد البوعزيزي نفسه. مع ذلك، لم يتغيّر سلوك الشرطة.
في "اشتباك" (2016)، للمصري محمد دياب، عصا البوليس تضرب، بينما الكاميرا مُعتقلة. هكذا يُقدّم الفيلم وجهاً قمعياً لجهاز الأمن. المشهد نفسه في "هم الكلاب" (2013)، للمغربي هشام العسري، سابقٌ عليه. لم تتغيّر الشرطة بعد عام 2010.
كومضة كبريت
في ظلّ هذه المَشاهد، كيف يبدو مشهد الحراك بين عامي 2010 و2020، سينمائياً؟ يبدو كومضة كبريت، لمعت بشدّة، ثم خبتْ، لأنّها لم تجد مجتمعاً مُشبعاً بروح التغيير، ليمدّها بطاقة الديمومة. الربيع الثوري مُفيد للسينما، لكن عمره قصير. بدل رحيل النظام، رحل الربيع.
للمسألة الاجتماعية دور ثوري في العصور الحديثة. انطلقت احتجاجات بسبب الحاجة والغضب، وليس نتيجة تطوّر فكري. تاريخياً، سبقت حركةُ الأنوار الثورةَ الفرنسية. في العالم العربي، أثّرت وسائل التواصل الاجتماعي، ونشرت سقفاً عالياً لأحلام التغيير. لكنْ، اتّضح أنّ رواد هذه المواقع يعيشون انفصاماً. هم في واقعهم محافظون، وفي صفحاتهم ثوريون.
نظرياً، الشعب يريد إسقاط النظام. لكنْ، ماذا لو سقط النظام، وانتشرت الفوضى والسيبة؟ الشعب يعرف حقيقته. لذا، يردّد: "دكتاتور ظلوم خير من فتنة تدوم".
بحسب "تقرير التنمية الإنسانية العربية" لعام 2016، عدد المستائين من مستوى معيشتهم في تونس انتقل من 26 في المائة عام 2009 إلى 39 في المائة عام 2016. في مصر، انتقل من 18 في المائة إلى 30 في المائة. تقول الأرقام إنّ الشعب يعتبر أنّه كان أفضل حالاً في عهدي زين العابدين بن علي وحسني مبارك. من يحتاج إلى الربيع؟
في هذا السياق الاجتماعي، إلى أيّ حدّ تمكّنت السينما من مواكبة الحراك، فنياً وجمالياً ودرامياً وتوثيقياً وبصرياً؟
يفترضُ السؤال أنّ التمرّد الفني سيواكب التمرّد السياسي. فعلاً، حصل تحوّل أسلوبي، إذْ اقترب الفيلم التخييلي من الوثائقيّ لنقل الحقيقة. لكنْ، يحصل أن يُثمر التصوير العاجل ريبورتاجاً لا فيلماً. كما تمّ كسر خطّية السرد، واستخدام خطاب سياسي في الحوارات.
أفلام ضد الثورات؟
نظراً إلى الأوضاع الحالية، لم تتمكّن السينما من تصوير مؤثّر لتعاسة الأغلبية، كي تعي بؤسها، فيدفعها إلى المطالبة بالتغيير. يرجع هذا الضعف إلى أنّ السينمائي العربي ليس مستقلاً اقتصادياً. صُنّف المحتجّون كمندسّين، وصار الاحتجاج يفسَّر بنظريّة المؤامرة. كلّ مخرج يُصوّر المندسّين، يُصنّف ويُعتقل معهم. في المغرب، تموِّل الدولةُ الأفلام. لا يوجد نظامٌ يموّل أفلاماً تمجّد الثورة ضده.
في المقابل، يحصل تصوير التهريج على تمويل هائل. الميزانيات التي حصل عليها هشام العسري لتصوير كوميديا رمضانية تلفزيونية سطحية أكثر من الميزانيات التي حصل عليها لتصوير أفلامه السينمائية الاحتجاجية. تلك الكوميديا أكثر شهرةً لدى الجمهور المغربي من الأفلام السينمائية الجادّة.
هل يُمكن القول إنّ هناك "أفلاماً ضد الثورات"، على غرار "الثورات المضادة"، أنتجها هذا النظام أو ذاك؟
صارت دبلجة المسلسلات الأجنبية، خاصة التركية، وسيلة تسلية عاطفية، من دون أيّ حسّ تثقيفي لربّات البيوت، اللواتي يمثّلن ركيزة الرجعية. من دون عنتريات، المجتمع نفسه ضد الثورة. يفضح عنوان الفيلم المصري "حرام الجسد" (2016)، النظرة الرجعية لمخرجه خالد الحجر. هناك عمالٌ وفلّاحون في حقل يابس. شخصيات لديها تعطّش لغدٍ أفضل، وليس لديها أي وسائل لتحقيقه. يكبّلها الخوف والإنهاك البدني، والإيمان بـ"قَدَر ربّنا". لم تصل ريح الثورة إلى الفلاحين. مَنْ لم يوفّر الحاجات الأولية، لن يصعد إلى الحرية. في وثائقيّ "أمل" (2017)، للمصري محمد صيام، مُراهِقة ثوريّة، تنقلب في آخره، فتُصبح قدريّة، وتصير نسخة مطابقة لأمّها. تريد أنْ تعمل شرطية. انفصامٌ دال.
لا مكان للثورة والتغيير في مجتمعات قدرية، ممنوع فيها نقد الدين. لا ربيع في الدول التي بدلاً من أنْ تخترع لقاحاً، تُناقش: هل مكوّناته حرام أم حلال؟
آية
منذ عرفتُ أنّ منطقة كازابلانكا تحتضن ضرائح 2000 وليّ صالح، وأنا قلق من قدرة المغرب على دخول عصر الحداثة. هذا بلد مثقلٌ بذهنيّة لاهوتية تعود إلى العصر الوسيط. في ظلّ هذا المعطى، ما هو النسق المعرفي الذي أوصل العرب إلى ما هم عليه اليوم من انحطاطٍ، تكشفه الأرقام لا السينما؟ المحافظة والتقليد.
للماضي تأثيرٌ عظيم في صوغ حاضرنا، بينما الثورة فعلٌ حداثي يتجه نحو مستقبل جديد. حاولت الحداثة نشر فكرة القطيعة مع الماضي. قال ماركس إنّ الحداثة قطعُ حبل السرة. بين المحيط والخليج، لم يُقطع حبل بلاستيكي منذ قرن.
في بعض الأفلام بذرة أمل. في الفيلم القصير "آية" (2017)، للتونسية مفيدة فضيلة، يقرّر الأب أنْ تترك ابنته المدرسة، لأنّ الذكور فيها يختلطون بالإناث. كبديلٍ، يتمّ خلق منظومة تعليمية موازية، ضد المنظومة التعليمية العمومية، التي تمثّل فرصة للبنات للتوجّه إلى الحداثة. ترفض الأمّ قرار الأب.
في ظلّ جهودٍ لتقديم أفلامٍ تلتزم الخطوط الحمراء للسلطة، وتُرضي الربّ وخلقه، فإنّ الأمل معقودٌ على أنْ تُلقّح الحداثةُ المجالَ السياسي والفني، ليتحرّر من أثر القيود التقليدية. لقاح تقدّمي، يُعادي الاستمرارية، ويؤكّد على وعي الزمن كحركة متقطّعة. لقاح الحداثة يُقوّي أسس العلاقة بين الجمال والحقيقة في الفنّ.