فيلمٌ أول للإسبانية أندريا باغْني يفتتح الدورة الـ28 (25 سبتمبر/أيلول ـ 4 أكتوبر/تشرين الأول 2023) لـ"مهرجان السينما الأوروبية" في لبنان. "رامونا" حكايةٌ مُصوّرة بالأسود والأبيض (باستثناء لقطات قليلة مُلوّنة)، تبدأ بثرثرة طويلة ومُتْعِبة بين شابّة ورجلٌ، يلتقيان صدفةً في مقهى، والـ"ثرثرة" موزّعة على مسائل آنيّة وحسّية، كالقلق/الأرق وعلاقتهما بالمدينة/الريف، وأحوال البيئة والمناخ، والمشاعر والتأمّل.
فصلٌ أول من 6 فصول، يكشف جوانب من شخصيتين تبدو إحداهما مختلفة تماماً عن الأخرى. نهاية الفصل مدخلٌ إلى مساحات أهدأ وأعمق، فالشابّة تطمح إلى تمثيل سينمائي، والرجل يظهر لاحقاً أنّه مخرج مشروعٍ، يُفترض بالشابّة أنْ تشارك في الـ"كاستينغ" الخاص به، صباح اليوم التالي.
في 5 فصول لاحقة، تنهار ذوات، وتنكشف خفايا، وتتبدّل أحوال، وتُغتَسَل أرواح. الشابّة تُدعى أونا (لوردِسْ إرْنانديس)، والاسم يُصبح، في التمثيل، رامونا. المخرج يُدعى برونو (برونو لاسْترا). أونا تعود إلى مدريد رفقة حبيبها نيكو (فرانشيسكو كارّيل)، الغائبة عنها وقتاً غير معلوم، وغير مُهمّ أنْ يكون معلوماً، وأنْ تُعرَف أسباب المُغادرة. الأهمّ ينبثق من لقاء الصدفة في مقهى، واللاحق يتمعّن أكثر في داخل الفرد، وهواجسه ورغباته وتفاصيل عيشه وأحاسيسه وتفكيره. سرعة موافقة برونو على إشراك أونا في الفيلم مُثيرة لريبةٍ ودهشة، ومحيطون به يريدون أنْ يتمهّل قليلاً، فالمتقدّمات كثيرات، ولا بأس بمشاهدة ما يُمكنهنّ فعله. برونو يريدها، ففي ختام لقاء الصدفة ذاك يُعلن لها أنّه يحبّها، فتنتفض وتغادر بعد إخباره أنّها مرتبطةٌ.
سردٌ يهدأ في تبديد غموضٍ، وكشف المندسّ في زوايا روحٍ وجسدٍ ورغبات. طغيان الأسود والأبيض يترافق وجمالية لقطات سريعة لمبانٍ وطرقاتٍ وأشجارٍ وشوارع، بعد أنْ يُفتَتح "رامونا" بصوتِ شابّة تنادي: "أبي"، ولا أحد يُجيبها، كأنّ عدم الردّ إنذارٌ بخبر سيئ، من دون أنْ يُعرف سبب عدم الردّ (!)، ومن دون أنْ يظهر أحدٌ أو شيءٌ، باستثناء شابّة (ستكون أونا) تدخِّن سيجارة على شرفةٍ صغيرة.
أونا/رامونا تريد أنْ تُصبح ممثلة. برونو راغبٌ فيها، فحبّه لها عظيم. نيكو فنان في إعداد الأطعمة، وثاقبٌ في اكتشافه الباكر نشوء علاقةٍ، وإنْ تكن صامتة لحظتها، بين حبيبته والمخرج. نيكو يحرّضها على المشاركة في الفيلم، لكنّه غير متحمّس لمغادرة البيت القائم في مبنى، يسكنه شبابٌ يُثيرون خوف أونا، فيكونون سبب إلحاحها على الانتقال إلى مكان آخر. تدريجياً، تتقدّم الشابّة في عملها، وينتهي إنجاز الفيلم، فتكون اللحظة مصيرية: أتنتهي علاقتها ببرونو؟
81 دقيقة كافية لمتابعة مسارات، لن تبلغ مرتبة التناقض، فالاختلاف بينها أخفّ وطأة. اعتماد تقنية الأسود والأبيض، باستثناء لقطات التمارين الأدائية وتصوير الفيلم، متأتٍ من رغبةٍ في جعل الصُور مرايا المخبّأ في ذاتٍ وروح، والألوان ضرورة فنية، كأنّ السينما (التمارين الأدائية وتصوير الفيلم) متنفّسٌ وراحة.
"هذا الفيلم الأول للسينمائية الإسبانية يتردّد صداه كتكريم للكوميديا الرومانسية، مع مراجع جميلة، مخدومةٌ بأسودٍ وأبيض مُتحكَّمٌ بهما جيّداً"، يقول تعريفٌ بـ"رامونا" منشور في الموقع الإلكتروني لـ StudioCinemas (7 صالات فنّ وتجربة في Tours، في غربي فرنسا). أمّا إرْنانديز، المغنّية وكاتبة الأغاني أيضاً، فـ"تُقدّم تفسيراً حسّاساً لشخصيتها، وتساهم في سحرها". هذا وصفٌ دقيقٌ لأداء، يُخرج من الشخصية خفاياها، ويُتيح للممثلة اكتشاف ما تملكه من براعة تمثيل في تفكيك أونا ورامونا معاً. لوكاس أوبْري يكتب (الموقع الإلكتروني لـ Sofilm، مجلة سينمائية فرنسية نصف شهرية، 16 مايو/أيار 2023) أنّ الجميع يعانون قلقاً، و"الذين يعرضونه يحكمون على أنفسهم بأنْ يُنظر إليهم على أنّهم غير سعداء". يُضيف أنّ هذه المواضيع "مثالية" لبدء حديثٍ مع طبيب نفسيّ، أو في مقهى: "أولئك الذين يختارون الاحتفاظ بها لأنفسهم، يموتون في سنّ باكرة بسبب سرطان البنكرياس". يرى أنّ هذه "القاعدة عالمية"، وأنّها "غير متزعزعة"، وأنّها واردةٌ في افتتاح هذا الفيلم "المؤثّر". لكنّ هذا كلّه، رغم أهمية ما يتضمّنه من "تحليل" أقرب إلى شعورٍ ذي رأي في حالةٍ أو أكثر، مرويّ بـ"ثرثرة" ستكون مُتعِبة، ولو قليلاً، وستبدو كأنّها "مُصطنعة"، خاصة في كيفية سردها، المرافق لتقطيعٍ/توليف حادّين (مونتاج بابلو بارسي)، ولو قليلاً أيضاً.
أبرز ما في النصّ النقدي هذا كامنٌ في ربط القلق بسرطان البنكرياس، عبر سؤال الاعتراف/الاحتفاظ به. المسألة غير سهلةٍ، لأنّ البوح في شأنٍ كهذا دونه تحدّيات، أبرزها مدى "تمكّن" المرء من القول/عدم القول. "رامونا تلتقي برونو" أول فصل يذهب إلى عمق الجرح، راوياً إياه بشيءٍ من ثرثرة تُشبه تصنّعاً في تعبيرٍ ذاتي. رغم هذا، تحوِّل الفصولُ التالية مسارَ الحكاية ومناخها وتفاصيلها، والتحوّل يجعل النصّ السينمائي أبسط في الكشف والقول والإحساس والمشاركة.