برحيل المُطرب الجزائري رابح درياسة (1934-2021)، قبل أيام، يُسدل معه ستار فصلٍ كبيرٍ من تاريخ الأغنية الشعبية بالجزائر. ليس في موته ما يُثير الحزن والشجن فحسب، بل ما تتركه آلام ولادة الأغنية التي تُخلّف لا محالة ندوب مرحلة ما زلنا نعيش على هسيسها وإشراقاتها إلى اليوم. وكأنّ الأغنية المَغاربيّة البدوية وُلدت معه، ورحلت برحيل صاحب الصوت المُتقطّع والهادئ والنبيل. لا شيء يُغري في الاستماع إلى رابح سوى صوته التلقائيّ المُنساب كزمنٍ نوستالجيّ جميل يئن تحت وطأة ثقل الحاضر وخرابه.
خامات الصوت مُتواضعة، لكنّها كانت قادرة، منذ بدايات خمسينيات القرن الماضي، على تحريك أحاسيس ومشاعر داخل مناطق يبابٍ من جسد الاجتماع العربي، ولا سيما أنّ رابح درياسة مزج في سيرته بين الغناء والتأليف والعزف، في وقتٍ كان ذلك صعباً داخل بلدانٍ لا تتوفّر على أدنى شروط العيش الكريم، فبالأحرى أنْ تعرف تشييد معاهد ومدارس للصولفيج والعزف والأداء.
وعلى الرغم من كون رابح درياسة لم يكُن الفنّان الجزائري الأوّل الذي أجاد فنّ الغناء والعزف، لكنّه من الجانب التاريخيّ يُعدّ الأخير ممن قعّدوا للأغنية البدويّة في الجزائر، وراكموا على منوالها ريبرتواراً غنياً، لا يقوى أيّ أحد اليوم على مُجابهة زخمه، بحكم اختلاف وتباين السياقين السياسيّ والفنّي. امتلك رابح موهبة الغناء صغيراً، وتملّك عبرها ميكانيزمات الأغنية الجزائرية بمسقط رأسه البليدة، وطوّع صوته وعزفه، ليصير بعد 30 سنة يُلقّب بـ"ملك الأغنية البدوية"، بعدما اخترق متون الأغنية العربيّة في ذلك الإبان، وأنزلها من رومانسيتها الكاذبة داخل الحفلات الرسمية والمقاهي الثقافيّة والصالونات الغنائية، مُستعيداً هذه المرّة عافيتها وفطريّتها وتلقائيتها داخل البادية الجزائرية.
إنّ سر نجاح أغاني رابح درياسة يكمن بالضبط بالعودة إلى الجذور. كل هذا في وقتٍ ظلّت فيه أغاني الطرب العربي تهجس على المستوى التقني والموضوعي بتراث الآخر الجماليّ. أمّا رابح، فلم يعمل إلّا ليكون سيّد ذاته ومرحلته وتاريخه ولسان قلقه وذاكرته الجزائرية.
لم يكُن حال الفنّان الجزائري رابح درياسة مثل الذين توسّلوا آلات إلكترونية صاخبة للتستّر على عجز الصوت وضعفه ووهنه، بل يتركه ينساب هادئاً على النّمط الكلاسيكي للأداء، وأحياناً مُندفعاً حسب ما يُمليه مسار الأغنية من جماليّاتٍ وتقاطعاتٍ. ففي رحلة الصوت، تنبثق موهبة الفنّان الداخلية، إذ لا يتسرّب معها لا شعوره الفنّي فحسب، بقدر ما تبرز ترسّبات الذاكرة وحسّها التاريخيّ.
على هذا الأساس، أدهشنا رابح درياسة بأغانيه الشعبية المُمتدة على مدى نصف قرن. فهي مُتنوّعة الثيمات الغنائية، وخاصّة أنّها تتجاوز في أحيانٍ كثيرة مشاغل الذات وهمومها، لتستقر عند جملة قضايا سياسية واجتماعية، كما هو الحال في أغنية "هيا يا جزائر"، تفاعلاً مع الحدث الرياضي الجزائري. كما أنّ رابح لم يتوقّف عند هذا الحد، وإنّما كتب عشرات الأغاني المنبثقة من الاجتماع الجزائري، لكن وفق الوجدان البدوي التلقائيّ الجميل. فأغانيه ليست عَالمة تستكنه جُرح السياسة والاجتماع وأهوال التاريخ، بل فقط يجعلها تخرج مهمومة وفي تلقائية ساحرة تُعبّر عن دواخل المجتمع الجزائري، من دون إقحامها في جسد أيديولوجيّ آخر.
هذا مع العلم أنّ موسيقى رابح درياسة، رغم شعبيتها الساحرة، فقد ظلّت مُتشبثة بسحر النوتة السريعة والآلة العصرية. لكن الخطاب الذي شُيّدت عليه الأغنية لأكثر من 50 سنة لا يتغيّر. فهل نشهد مع رحيل رابح درياسة موت الأغنية الشعبية المَغاربيّة الأصيلة؟ أم أنّ رحيله لا يعدو أنْ يكون صورة عن حياة ثانية ستنحتها أغانيه في وجدان كلّ من أحبوه مُؤلّفاً ومُطرباً؟
ما يُثير الحزن في رحيل رابح أنّ الجهات الرسمية داخل الجزائر والمغرب وتونس لم تنتبه له، في وقتٍ كانت فيه أغانيه مُسجّلة داخل كل البيوت المغاربيّة، لمّا كان الزمن يحتفظ بطراوته وحساسيّته وبذرته في تأسيس مشروعٍ غنائيّ عربيّ قائم على الفنّ والجمال والهويّة والتعدّد والاعتراف.