"دِرب": نصّ بسيط ينقصه شيء من كثافة

05 يوليو 2023
هادي محقّق في "دِرب" مخرجاً وممثلاً: تأمّلات في الإنسان (الملف الصحافي)
+ الخط -

كأنّه لعباس كيارستمي، وشيء من سُهراب شهيد ثالث. كأنّه فيلمٌ قرّر الرجوع بالسينما الإيرانية إلى عهودٍ قريبة، لكنّها مضتْ، بأسلوبٍ ينشد العودة إلى الطبيعة والصمت والشاعرية، كطريق إلى التأمّل في الإنسان. فيلمٌ قصيدة، يُقدّمه هادي مُحقّق في "الأرض الصلبة" (2022)، رابع اشتغالاته. فيه بعض مما قدّمه سابقاً عن الإنسان المعزول في دروب الحياة، والبسيط الذي يقف على أرضٍ صلبة تبثّ فيه من قوّتها وبهجتها وقسوتها وعطائها مقاومة راسخة.

"دِرب"، العنوان الأصلي للفيلم بلغة "لوري" لسكّان "لورستان"، جنوب غرب إيران، يعني "الأرض الصلبة"، المتحوّلة في العنوان العالمي إلى "رائحة الريح"، الفائز بجائزة التحكيم في الدورة الـ40 (1 ـ 11 فبراير/شباط 2022) لـ"مهرجان فجر" في إيران. ما يهمّ أنّ الطبيعة هنا، في العناوين والفيلم، على مدى النظر، في مَشاهد طويلة ثابتة، وإيقاع بطيء يجعل الوقت ثانوياً، ومروره طويلاً. الشعور بالوقت، بمن يمرّ عليهم، وبأحداث لا تعبأ بطوله أو قصره، وسيلة لتلقّي أجواء والإحساس بها، بالتأمّل في الطبيعة، وهذه الحياة، وقيمة بعض معانيها: الصبر والمثابرة والعطاء، خاصة.

حين يكون أب عاجز، وسيلته في التنقّل الزحف في المرتفعات القريبة والبعيدة، لجلب أعشابٍ طبيّة، يُعينه بيعها على تكاليف الحياة، فإنّ أي طارئ يحدث في بيته النائي يُثير مشكلة كبيرة. انقطاع الكهرباء مثلاً بسبب عطل. كلّ شيءٍ يبدأ مع هذا العطل في المحوّل، وجهد الرجل، رغم عجزه، في الوصول إلى المركز للاتصال بشركة الكهرباء، ثمّ وصول الفني بسيارته للكشف. لكنّ الأمر ليس بهذه السهولة. فكلّما توصّل إلى حلّ، تبيّن أنّ للعطل سبباً آخر. هكذا حلقة لا تنتهي، كمتاعب الحياة. يُسدُّ بابٌ، فينفتح آخر. العطل أكبر من أنْ يتمكّن منه. هناك قطعة مفقودة، يبحث عنها في تنقّل مليء بمواجهات وعقبات.

تتحوّل المشكلة إلى مشروع شخصي للكهربائيّ، بعد ملاحظته أحوال الأبّ المشلول، وابنه طريح الفراش في هذا البيت الريفي المتواضع. يسوؤه الأمر، إذْ كيف يترك عاجِزَين من دون كهرباء؟ يحتفظ بهدوء واندفاع مثاليين. يشتري مولّداً لهما انتظاراً للحلّ. يفعل أشياء أخرى تُبدي رغبة مخلصة في إيجاد حلول، ولو مؤقّتة، وإنْ يدفع من جيبه الخاص، ووقته الخاص.

تتكرّر لقطات ثابتة، تأخذ وقتها، لطبيعة جبلية، وطريق ترابية، ومنازل وقرى، تتيح زمناً لتمعّنٍ واسترخاء. يَدخل في اللقطة التي على مهلٍ، من قريب أو بعيد، عنصرٌ، شخص أو سيارة. تقترب الكاميرا من الشخص، قليلاً. يتفوّه بكلمة أو اثنتين، أو يكتفي بنظرة أو نظرتين، ثم يبدأ بعمل أتى من أجله. الرجل العاجز يُحضّر أعشابه لبيعها، والكهربائي يتسلّق عمود الكهرباء. تنقضي المَشاهد بين رواح الفني ومجيئه، ومحاولات اتصاله باللاسلكي، في هذه المنطقة المعزولة.

هكذا، يبدو الإنسان على نحوٍ، نادراً ما يظهر عليه: خدوماً وكريماً (الفنيّ)، صبوراً ومكتفياً (الأبّ)، ومثابراً (الاثنان). يواجه مِحَن الحياة بعزة وحكمة وشعور بالمسؤولية، تحيط به طبيعة، تمنح بهاءها إلى من يستطيع التأمّل فيها.

لا شيء يوحي بأنّ حدثاً سيقع. أعمى في قرية مهجورة يدخل المشهد، ويطلب من الفني المارّ بالقرية، باحثاً عن القطعة الكهربائية المفقودة، أنْ يصطحبه إلى وجهة ما. سيكون لقاء مع امرأة. هنا أيضاً لا تقترب العدسة منهما، بل تبتعد في حشمة. لن تُظهر العدسة، سوى من بعيد، يدَ المرأة الممتدة لتمسك يده.

 

 

هؤلاء أبطال الفيلم. الجميع يقبلون مصائرهم، محاولين، بهدوء وصبر، الاستمرار ومقاومة الظروف. لا أحداث. حوارات نادرة. لا قصّة، في الواقع، بل نصّ بسيط ينقصه شيء من كثافة. يبعث على الملل في لحظات (مدّة الفيلم 90 دقيقة)، ربما يُبعد جمهوراً. ورغم اندماج، يبقى الإحساس بنقصٍ ما، حتى منتصف الفيلم. فمع خطة هادي محقّق في اعتماد لغة بصرية، تتكرّر فيها الكاميرا الثابتة واللقطات الطويلة جداً، الموزّعة بين الطبيعة الجميلة وحياة الشخصية المعوّقة وتنقلات الفنيّ، تأتي لحظات يجمد فيها الحدث. ربما تنفع الخطة كنموذج لبدء القصة، وتقديم الحياة الراكدة للشخصية. لكنْ، عندما تستمرّ، حتّى عندما يأتي حدثٌ يفرض تغييراً، يُطرح تساؤل: ماذا بعد؟

يطرأ تحوّل على النظرة. كأنّها تستمدّ قوّتها وصبرها من الشخصيات، فتتسلّل شيئاً فشيئاً راحة، تدفع إلى قراءة متأنّية ومتأمّلة في هذا الإنسان، وفي الطبيعة والعطاء ومواجهة مِحَن الحياة، وكيف يُمكن أنْ تكون نافعاً ولطيفاً، تدفع من وقتك وجهدك ومالك من دون مقابل (شراء مولّد، وفراش للصبي). أين هذا الآن؟

في "الأرض الصلبة" -الفائز بـ"جائزة سئوك" في الدورة الـ27 (5 ـ 14 أكتوبر/تشرين الأول 2022) لـ"مهرجان بوسان"، التي تُمنح باسم مدير راحل للبرمجة لـ"أكثر الأفلام جاذبية"، التي "تعكس المكانة المعاصرة للسينما الآسيوية"- دعوة تلقائية للعودة إلى النفس والمشاعر الإنسانية. رحلة داخلية لمواجهة المشاهد بجوانب منسية في الإنسان، في العصر الحديث، تربط الطبيعة بطبيعة البشر.

مثل عباس كيارستمي، الذي يعتبره محقّق المعلّم، في نظرته الإنسانية وقيمة أعماله الفنية، وأسلوبه الخاص في إبداء المجتمع الإيراني بلا شعارات، وبذكاء. في" دِرب"، كلّ ما يحيل إليه تحية له. مناظر طبيعية أخّاذة، وإنْ بدت قاسية أحياناً. هذه المرتفعات والدروب الملتوية والسهوب المترامية تعبرها سيارة الكهربائيّ. فيه حياة الناس البسطاء، وصبرهم ومثابرتهم وشعورهم بالمسؤولية.

لا ممثلين محترفين، حرصاً على مصداقية السرد، إلا المخرج نفسه، الذي أدّى دور الفني الكهربائيّ. أراد تجسيد ما رآه حقيقة، مستوحياً شخصيته من صديق له هناك في تلك المنطقة (جنوب غرب إيران)، مكان الطفولة والشباب، التي يحبّ تصويرها، وتصوير الحدث حيث يقع، حفاظاً على المصداقية أيضاً. هناك ما يُحيل إلى سُهْراب شهيد ثالث (1947)، مخرج "حدث بسيط" (1973). إنّهما المعلّمان - القدوة لهادي محقّق (1979).

المساهمون