عرفَ المشهد الموسيقي الفلسطيني المحلي، منذ مطلع الألفية الثانية، تجارب موسيقية شبابية، انعطفت في موسيقاها نحو الرائج والمعاصر، مثل الهيب هوب والراب. هكذا، ظهرت فرق مثل "دام" و"رام الله أندرغراوند" وMWR و"السالب واحد" وغيرها من الأسماء. وهي فرق مستقلة أخذت تنتج أعمالها بنفسها بإمكانيات بسيطة، في البيوت المهجورة والساحات الفارغة، بعيداً عن الإملاءات السياسية والشروط التعسفية التي ترافق التمويل عادة.
تمكّن الناظر بعد تجربة "السالب واحد"، يرافقه شب جديد، من تأسيس حالة موسيقية مميزة جمعت بين الهيب هوب والتراب، تجاوزت الجغرافيا المحلية، وحجزت لنفسها مكاناً بارزاً ضمن مشهد الراب العربي. بدأت الشراكة بين الاثنين بإنتاجات منفردة، مثل "كارلو" و"عاد وعدينا"، و"كحل وعتمة"، ثم كانت الانطلاقة مع ألبوم "سندباد الورد، 13 أغنية" عام 2019، من إنتاج شركة بلاتنم الناشئة التي صارت تضم إلى جانب الناظر وشب جديد أسماء رابرز آخرين مثل ضبور وفوزي ورمضان وشب موري في مجال الإنتاج البصري، جميعهم "ولاد قدس"، تراهم يتسكعون "من رام الله إلى القدس وبالعكس" (عنوان فيديو لشب جديد).
هذه التجارب استَقت نوع موسيقاها من الغرب، في البداية، إلا أنها تمكنت من صنع موسيقاها الخاصة، وفرضت فيها طابعها وثقافتها المحلية، مثل الفلكلور ونكهة موسيقى الثمانينيات والتسعينيات العربية، فالسامع لأغاني شب جديد، بلهجته المحلية وأسلوبه السلس في رشق الكلمات المغلفة بأفكار عن المقاومة والسياسية والمعيش اليومي، سيلمح هوية الفلكلور الفلسطيني في الموضوعات وبعض العينات الموسيقية المستخدمة في البيتات. كما أن هذه الأصوات، رغم تفتح وعيها على غياب فاعلية منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية والانشقاق السياسي بين الضفة وغزة، إلا أنها استقلت سياسياً عن أي انشقاق ونبذت السلام والاستسلام.
يتميز خطاب هذه التجارب بأنه غير مهادن، ومع مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بكل أشكالها. نتيجة لذلك، نجت تلك الأصوات من أي تأطير حزبي أو تنظيمي، وابتعدت عن ترديد الشعارات، وعبّرت عن وعيها لسياسية المنطقة ورفضها الحلول والآراء المتزمتة التي لا تأخذ كل الأوضاع بالحسبان. لذلك، لم تمارس تلك الأصوات في أغانيها أي إرشاد أو توجيه أو أي توعية، بل نقلت بحساسيتها الفنية سرديتها هي كما تعيشها للوقائع اليومية والاجتماعية والثقافية والعاطفية لحياة الشاب الفلسطيني واهتماماته، وتبيان مدى فرقها عن حياة الشاب خارج فلسطين، إذ "تتنوع أحلام الشب العربي من أم سطعش إلى مفتاح البورش إلى يطلع بس يرجعش" (أغنية 16 جب). بينما كل أحلام أبو أذينة الذي عرف لاحقاً باسم "شب جديد" أن يصل سريعاً إلى القدس، بعد أن يتجاوز "16 جب"، حيث ينتظره ضبور عند "ديوان الجدعنة" رفقة أحد عشر رجلاً ولسان حالهم يقول: "بلجان بلجان" (أغنية إن أن).
وجدت حنجرة ضبور، ذاك الشاب العشريني، طريقها إلى "بلاتنم"، فكانت "أفضل استثمار" بالنسبة للجميع مع إصدار ألبوم "الجدعنة، 3 أغاني" عام 2021، وتحديداً أغنية "إن أن" المصورة، وهي أغنية يصوب فيها ضبور بأسلوبه العنيف على المحتل في القدس، يعلن فيها جاهزية الشباب للاشتباك أو لفزعة ما: "سمونا وحوش بنص الأدغال، تطلبنا نجيك لو بعيد أميال، لو بعيد أميال، إحنا الجدعان، للغابة خال إحنا سباع".
ربما لا يعرف كثيرون أن السند الثقافي لهذه الأغنية التي حققت حتى هذه اللحظة 56 مليون مشاهدة هو المتنبي، فضبور في أحد لقاءاته يقول: "أنا وأبوي قاعدين بقلي من أجمل ما كتب المتنبي: إِنْ أنّ آنٌ آنَ آنُ أَوَانِهِ... فكتبت إن أن قد آن أوانه وبعدين كملنا".
يمكن القول إن اختيار هؤلاء الشباب مجال الراب للتعبير عن أحوالهم، وتصدرهم مشهد الراب العربي قد ساهم بشكل كبير في تحقيق نقلة في المشهد الموسيقي الفلسطيني نحو الحديث والمعاصر، وهم في الوقت نفسه ينشرون عبر كلماتهم ثقافتهم المحلية وعاداتهم ويومياتهم على أرض القدس مع المحتل وضده. كل هذا يحصل ضمن مجال موسيقي فيه مئات الملايين من الأشخاص المهتمين بما يحمله كل جديد في الراب، فلك أن تتخيل، وهذا حصل كثيراً وخصوصاً على منصة تيك توك، أن كثيرين جعلوا من أغنية "إن أن" و"كحل وعتمة" تريند وصل إلى الملايين.