- يبدأ السرد في إسطنبول خلال جائحة كورونا، حيث يستعرض محجوب لقطاته منذ عهد القذافي وخلال الثورة الليبية، مُظهرًا تحوله إلى مصور ميداني يوثق الصراعات.
- يسلط الفيلم الضوء على الجوانب النفسية والعاطفية لتجربة محجوب، مبرزًا تأثير الحرب على حياته وأحلامه، وكيف واجه الخسائر والتحديات محاولًا إيجاد معنى في الفوضى.
من ليبيا، يأتي مُنجز سينمائي غير متوقّع. لا مبالغة في وصفه بالمُشابِه لأفلامٍ وثائقية تُنجز في بلدان لها تاريخ طويل في الصنعة الفيلمية. "دونقا" (2023) لمهند الأمين يقارب، في مستواه، وثائقيات أخرى جيدة، تناولت من منظور شخصي مراحل دراماتيكية في تاريخ بلدان وشعوب، تُرصَد غالباً بعيون مُصوّرين يعيشونها، وينقلون بكاميراتهم تفاصيلها، فيغدون شهوداً عليها، ويصير منجزهم وسيطاً بصرياً ينقلها إلى العالم.
في التجربة الليبية، لجعل ذلك متاحاً سينمائياً، يُعالج الأمين خامات ما يُصوّره الشاب محمد محجوب، المُلقّب "دونقا"، في عقدٍ كامل من الزمن، بكاميرا ديجيتال (فيديو)، والتصوير سينمائي. خامات توثّق أحداثاً سياسية يعاصرها في مقتبل شبابه، ويتعامل معها كحصيلة لهواية مُحبّبة لديه، قبل أنْ يحترفها لاحقاً. تجربة "دونقا"، الشخصية المتشابكة مع العام الليبي، تحوّلت إلى منجز سينمائي مهمّ، تكاملت عناصره الفنية بتولّي المخرج إنجاز أكثرها بنفسه (السيناريو، والمونتاج بمساعدة خالد الشامس، والتصوير برفقة علي السبتي)، وأضفت تعليقات "دونقا" على مساراتها بُعداً حميمياً، يُحيلها إلى ما يشبه البوح الحزين على ما فعلته سنون الحرب الأهلية الليبية به وبشعبه.
في إسطنبول، زمن انتشار كورونا، يبدأ مسار "دونقا" ـ المعروض في قسم "رؤى البحر الأحمر"، في الدورة الثالثة (30 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 9 ديسمبر/كانون الأول 2023) لـ"مهرجان البحر الأحمر السينمائي" ـ بمشهد يظهر فيه محجوب جالساً في غرفة فندق، يُقيم فيه أثناء فترة مراجعته أطباء يُشرفون على علاج إحدى عينيه، المصابة بشظية قنبلة انفجرت قربه أثناء تصويره جانباً من مجريات الحرب الأهلية. يُقلّب في حاسوبه بعض ما صوّره في عقد من الزمن. يتوقّف عند صُوَر ولقطاتٍ تثير في نفسه الشجون، وتُذَكّره بماضٍ قريب لم يكن يتصوّر يوماً أنّه سيكون هو نفسه شاهداً على فداحته. يتذكّر أنّه، عند بلوغه 19 عاماً، بدأ تصوير مشاهد من الحياة اليومية الليبية في عهد معمر القذافي. ينتبه إلى ما كان يحيط به الزعيم نفسه من هالة، تجعله حاكماً مطلقاً، يتحكّم بالعباد والبلاد. يجد صعوبة في التوقّف عند مَشَاهد قاسية، صوّرها بنفسه عام 2011، يوم خرج الناس من مصراتة ضد الرئيس، مُعلنين رغبتهم في التخلّص منه، والانتقال إلى مرحلة يتحكّمون هم فيها بمصيرهم ومصير بلدهم. لم يتصوّر أنّه سيكون شاهداً ومُوثّقاً للعنف، الذي قوبلت به الجماهير من جيش النظام وأعوانه. لم يتدخّل فيها. اتّخذ موقفه منها كموثّق محايد، ولاحقاً قرّر الالتحاق بإحدى الكتائب المسلّحة المعارضة، مُشترطاً عليها أنْ يكون مُصوّراً فيها لا مُقاتلاً.
تطوّرات المواجهة بين الجيش والكتائب المسلّحة المعارضة، وتوثيقها بكاميرته من سُوْح القتال، ومرافقته مقاتليها في مواجهتهم تنظيم "داعش" وتصفيته، هذا كلّه جعله مُصوّراً ميدانياً مقداماً. الاشتغال السينمائي يعتمد، في جانب منه، على وفرة ما وثّق بنفسه. لكنّ صانعه لا يكتفي بها، بل يُدخلها في مكاشفات شفاهية مشحونة بانفعالات صادقة، تجعل المَشاهِد التي تجمع بين العنصرين مساراً تعبيرياً قابلاً لمراجعة التجربة، وتتبّع تقلّباتها الدراماتيكية سينمائياً.
تخلق عملية الدمج، الحاصل بين البوح الشفاهي والصورة، توليفاً مُركّباً، الجانب النفسي فيه يأخذ مساحته اللازمة للتعبير عن مشاعر مضطربة، لشابٍ عقد آمالاً كبيرة على ثورة شعبه، لكنّه انتهى مثلها، مُحبطاً. يتعلّم المصوّر الشاب ـ بالتجربة، وبعد شروعه بالعمل في منصة إعلامية على الإنترنت ـ مبادئ العمل الصحافي، واشتراطات مهنة المراسل الحربي، الكامنة بالفطرة فيه. هذا المجال يدفعه إلى ملاحقة الأحداث، والمضي في توثيقها من أقرب نقطة ممكنة. وجوده القريب من الأحداث المتلاحقة، وذهابه من مصراتة إلى طرابلس العاصمة عبر تونس، لمعرفة ما الذي يجري فيها، بعد تحرّك قوات الجنرال خليفة حفتر نحوها، يُشعرانه أنّ هناك أمراً خطراً ينتظرها. كانت المدينة، لحظتها، تحتفل بنصرها، وفي الوقت نفسه كانت تنتظر دمارها.
تُحيل الحرب الأهلية، بين القوى المعارضة للنظام، البلد إلى ساحة صراع مسلّح منفلت، يُدخلها في دوّامة عنف لا مُستقرّ لها. يشعر المُصوّر بالأسى عليها، وعلى حياته التي يتأمّل مساراتها، وما خسره خلالها. لم تترك الحرب له أحبة وأصدقاء كثيرين. وجوده في المكان البعيد من موطنه يزيد من إحساسه بالعزلة والخيبة، اللتين يداريهما أحياناً بأمل أنْ يعيش جيلٌ ليبيّ آخر، يأتي من بعده، حياة أفضل من التي عاشها.
الميزة الأهم لـ"دونقا" أنّه يأخذ مُشاهِده معه في الدروب نفسها التي سار عليها بطله، ولا يتدخّل فيها. يترك له التعبير عن جوّانياته بحرية لافتة في صراحتها، كما يترك للكاميرات كلّها (ما يُصوّره المُصوّرون الثلاثة: مهند الأمين وعلي السبتي ومحمد محجوب) أخذ نصيبها في الظهور في مُنجز سينمائي رائع، يمضي معه في رحلة طويلة، دامت عقداً من الزمن، يسرد خلالها ما عاشه من أحداثٍ، وجد نفسه منغمساً فيها، لا يخجل من مراجعتها بضمير مرتاح، لأنّه لم يتورّط أبداً في فظائعها، والسينما تشهد بصدق على ذلك.