استمع إلى الملخص
- خلال الثورة، كانت الكاميرا أداة خطرة، حيث تعرض المصورون للملاحقة، لكنهم استمروا في توثيق الأحداث رغم المخاطر، مثل عبدي التي أنجزت فيلمها الوثائقي.
- بعد سقوط النظام، زاد عدد المصورين وانتشرت الصور بحرية، لكن بعضهم لا يزال يستخدم أساليب سرية تأثراً بالماضي.
يتجول المصوّر السوري الشاب محمد نور الدرا في دمشق في اليوم الأول من سقوط النظام السوري، ويلتقط بعدسة هاتفه الجوال تماثيل الأسد الأب وهي تنهار، وصور الأسد الابن وهي تُمزّق وتزال من الشوارع السورية، طاويةً معها حقبةً من التاريخ السوري. في تصريحات لـ"العربي الجديد"، يقول الدرا: "لا أعلم بالتحديد هل عليّ أن أعيش اللحظة أم أن أوثقها. أشعر بارتباكٍ كبير. هل عليّ أن أحفظ الصور في ذاكرتي الشخصية أم في ذاكرة الكاميرا؟ لأول مرة منذ قررت أن أصبح مصوراً لم أعد خائفاً من إشهار الكاميرا أمام وجه أي شخص، ولاحظت أن الناس كذلك لم يعودوا خائفين من أن نصورهم، بل طالبونا بذلك. هذه الحالة تمثل بالنسبة لي تعبيراً مجازياً عن الحرية التي تطلع الشعب السوري إليها، وهي اختزال لحرية الخلاص من طاغية".
شارك محمد نور في تظاهرات عين ترما التي اندلعت في عام 2011، وكان يخفي وجهه أسوةً بالمتظاهرين. حينها، خشي الجميع من أن تظهر وجوههم على وسائل الإعلام، وهذا تماماً ما يتذكره المصوّر الشاب، وما يعتقد أنه يلخص العلاقة السابقة بين المواطنين والكاميرا. يقول: "في إحدى التظاهرات المناهضة للنظام في عين ترما، خلعت الكوفية التي كانت تغطي وجهي، بفعل الحماسة، فاصطادتني كاميرات وسائل الإعلام، وحينها ما كان لوالدي الذي شاهدني على شاشة إحدى الفضائيات سوى أن يحرق ملابسي التي ارتديتها في تلك المظاهرة وذلك كي يخفي هويتي في حال هاجمنا رجال الأمن. وهكذا نجوت مصادفةً، لكن هذا الخوف لم يغادرني قطّ، ومن بعدها خلقت لدي رغبة عارمة بالتصوير والتوثيق، وتحولت إلى مصور".
من المثير للاهتمام أنه في الأيام التي تلت سقوط النظام، تغيرت علاقة المواطنين مع الكاميرا، كذلك المصورين أنفسهم الذين كانوا في حيرة من أمرهم بين المشاركة في احتفالات السوريين أم توثيقها. يقول المصور محمد نمور: "تحولت الكاميرا إلى مصدر للأمان بعد أن كانت مصدراً للرعب، وما يعزز فكرة الأمان وجود كم هائل من الناس التي تحمل الكاميرات. لم أتخيل قط وجود هذا الكم الكبير من المصورين في سورية". يضيف: "في الأيام الأولى من سقوط النظام، أردت أن أصور الحالة وليس الشارع مثلما كنت أفعل في السابق، ما أثار انتباهي هو ألفة السوريين مع الكاميرات، ورغبتهم بالظهور على وسائل الإعلام، فقد شعروا فجأةً أن لهم صوتاً مسموعاً"، وهذا خلافاً للحالة السابقة التي سيطرت على السوريين وهي حالة الخوف والتوجس من الكاميرا. نمور الذي عايش تعامل المواطنين مع الكاميرات والمصورين، يقول: "لم يكن السوريون في الشارع متآلفين مع الشخص الذي يحمل الكاميرا ويمشي بينهم. كانوا ينظرون إلى المصور باعتباره شخصاً يصطف سياسياً مع طرف ما، ربما لا يتفقون معه، فهو بالنسبة إليهم إما أبيض أو أسود".
يلاحظ المصورون أن علاقتهم ورؤيتهم للصورة بحد ذاتها تغيرت، ونمور من بين المصورين الذين يؤكدون سهولة وصول لغة الصورة لجميع الناس، وهو من موقعه يحاول أن يراقب ويوثق اللحظة التاريخية: "علاقتي بالكاميرا تحولت إلى استجابة سريعة للحدث الشديد التسارع. كل يوم هناك حدث جديد، وحتى الهوية البصرية للبلاد بحد ذاتها شهدت تحولات. ألاحظ اليوم كيف كسرت الكاميرا حواجز التواصل مع الآخر، أشعر بأننا كنا نعيش داخل سجن أو في غيبوبة، والذات السورية اليوم استفاقت على كينونتها وحاولت التعبير عنها عبر هذه الأداة... الكاميرا". يشعر نمور بأن موقعه في الحدث هو الموثق، والمصور، والمراقب، فهو ميال إلى التقاط المشاهد أكثر من معايشتها من دون كاميرا، ولكنه يرى أنه "بطبيعة الحال كوني أشغل فراغاً في فضاءٍ عام، أنا مشارك في الحدث".
عقب الأشهر الأولى من اندلاع الثورة في سورية، أصدر النظام السابق قراراً ينصّ على منع المصورين من التصوير في الشارع. وحينها، أوصى دوريات الشرطة بمتابعة الموضوع، ونتجت عن ذلك حالات ملاحقة للمصورين وكسر كاميراتهم واعتقالهم. يذكر المصور وصانع الأفلام علاء أبو فراج حالة التصوير في سورية قبل اندلاع الثورة: "قبل عام 2011، كان لا مانع من التصوير في الشارع، وصورت آخر صوري في الشارع فجر اندلاع الثورة، ومن بعدها تحوّلتُ إلى التصوير الصحافي وحصلت على تصريح من وزارة الإعلام يسمح لي بممارسة التصوير. كنت أحمل بطاقة لكنها ليست فعالة من دون تصريح من وزارة الإعلام يحمل تاريخاً واضحاً ومحدداً. وفي السنوات الأخيرة أصبح هذا التصريح متاحاً فقط لوسائل الإعلام الرسمية، كنت أصور خلسةً أحياناً، وفي بعض الأحيان كان يطلب الأشخاص الذين ظهروا في الصورة محو الصورة أمام أعينهم لذلك كان التصوير ليس بالأمر الهين". ما أن سقط النظام حتى تناول أبو فراج كاميرته ونزل إلى ساحة الأمويين، ولاحظ أن الناس لا تلقي بالاً إن وُجّهت الكاميرا إليهم، بل سرعان ما يبتسمون ويتخذون وضعية تناسب الصورة، حتى أفراد فصائل المعارضة الذين احتفلوا في الساحة عينها فجر السقوط، طلبوا من المصورين أن يلتقطوا لهم صوراً.
تتذكر المصورة وصانعة الأفلام راما عبدي أنها في يوم من الأيام، في ذروة الحرب السورية، ذهبت لتصور لقطات من فيلمها الوثائقي "رقص السمك" في الشارع، وحينها رفعت راما كاميرتها من دون أن تدرك ما الذي ينتظرها أمام مخبز حكومي. كانت تصور عملية بيع وشراء الخبز أمام شباك البيع، وسرعان ما اندفعت مجموعة من الرجال وساقوها نحو فرع المخبز. حينها، أجبرها مدير الفرن على مسح اللقطات، لكنها احتالت عليه ولم تنفذ أمره. ورغم ظروف التصوير الصعبة في الشوارع السورية، إلا أنها أنجزت فيلمها الوثائقي كاملاً في الشارع ولم تخفِ كاميراتها حينها. إلا أن ما فعلته عبدي فيه شيء من المخاطرة؛ إذ تخبرنا بأنها حتى الآن لم تصدق أن التصوير أصبح آمناً: "الخوف مزروع فينا وتمكن منا، طغى الخوف عليّ سنوات وسنوات، وشعرت أني في قوقعة، لا سيما أنني أعمل مع جهات مستقلة. كنت أخشى أن يتهموني بالتعامل مع جهات مشبوهة". لم تصور عبدي حتى الآن تحولات الشارع السوري، فبالنسبة إليها هي لا تزال في طور استيعاب الحالة: "أنا في مرحلة المعالجة الشعورية لما جرى. الحدث كان سريعاً. لا أعتقد أن رؤيتي لما حصل تبلورت بما يكفي، ولا أظن أنه ثمة من يستطيع تقديم رؤية تحاكي الواقع".
أما المصور أمين أبو قاسم، فقد شاءت الظروف أن يغير مسكنه إلى بيروت قبل سقوط النظام بقليل. أبو قاسم يشاهد اليوم من مكان إقامته الجديد كيف انقلب كل شيء في بلاده بين ليلة وضحاها رأساً على عقب: "اخترت التصوير منطلقاً لمواجهة طغيان السلطة، إذ عرفت أنني غير قادر لكوني فرداً أعزل على ترويض السلطة، فالأمر يفوق طاقتي". وبالنسبة لتعامل المصورين مع السلطات، يقول: "وجدت نفسي في بدايات النزول إلى الشارع مع كاميرا، ألجأ إلى نوع من الشعرية والرمزية، أو بالأحرى الطريقة التي تعرف فيها الأشياء من دون أن تسميها بمسمياتها، وذلك في ظل واقع لا يمكنك التحكم فيه وغير قادر على التعامل مع ماهيته". يضيف: "انطلاقاً من هذه الفكرة، حاولت أن أحكي حكاية عبر صوري وذلك حفاظاً على حياتي وسلامتي. كان التقاط صورة في دمشق يتم خلسةً، ولطالما شعرت بأنني أسرق الصور، وبالنسبة للناس فقد كانوا مقموعين أشد القمع إلى درجة تمنعنا حتى من أن نطلب إذناً لتصويرهم. في بيروت تعلمت أنني بحاجة إلى سؤال الناس قبل التقاط الصور لهم. تعلمت أدبيات التعامل بصفة مصور مع المشاة في الشارع، واحترام خصوصيتهم. كانت الكاميرا في دمشق سلاحاً، والكل كان يرعبه هذا السلاح. أعتقد أن السوريين وجدوا راحتهم بالعيش في نطاق الظل، واليوم خرجوا إلى الشمس".
يقول أبو قاسم، الذي لم تتسنّ له مشاركة رفاقه المصورين بالتقاط الفرح العارم والروح الثورية التي خيمت على الشارع السوري في الأسبوع الأول من سقوط النظام: "المباشرة تطغى على الصور الآتية من سورية اليوم، والمباشرة هنا لا تعني التصوير البسيط والسهل، وإنما بمعنى أنه أصبح بإمكان المصورين أن يثبتوا كاميراتهم في المكان الذي يريدونه، من دون أن يتلصصوا أو يختلسوا خلسةً. أشعر بطوفان الصور وكأنه انفجر، وأعتقد أن أسلوب التصوير سيختلف عمّا كان قبل سقوط الأسد، فقد تحررنا من الرقابة الذاتية وكذلك الرقابة والسلطة السياسية. أما أنا فتمكّن مني أسلوب سرقة الصورة الذي تعلمته في سورية، وأشعر أنني لا أزال أصور وأنا في بيروت بأسلوب صوّر واهرب!".