"حيوات سابقة": تكثيفٌ ميلانكولي لعلاقة حبّ مستحيلة

16 أكتوبر 2023
"حيوات سابقة": لمسة حزن تُترجِم شعور الوخز في القلب (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

ينفتح "حيوات سابقة" على امرأة ورجلين يتسامرون حول طاولةٍ في حانةٍ في نيويورك، الرابعة صباحاً. من خارج الإطار، يُسمَع حوارٌ بين شخصين، يحاولان تخمين العلاقة التي تجمع الثلاثي. ثم "فلاش باك": 24 عاماً إلى الوراء، إلى منبع الحكاية في سيول (كوريا الجنوبية)، في تسعينيات القرن الماضي، ونشوء علاقة تقارب بين نا هونغ وزميلها في الدراسة الابتدائية هاي سانغ، قبل أنْ يقطع تطوّرَها قرارُ عائلة الفتاة الهجرة إلى كندا، وتغيير اسمها إلى نورا مون.

تكتشف مون، أثناء دراستها في نيويورك، بعد مرور 12 سنة ـ بفضل تعليق على صفحة فيسبوكية ـ أنّ هاي سانغ ظلّ يبحث عنها هذه المدّة كلّها. لكنّ تغيير الاسم حال دون العثور عليها، فتُقرّر الاتصال به، ويعود الوصل بينهما عبر رسائل إلكترونية، ودردشات مرئية.

في فيلمها الروائي الطويل الأول، حرصت سيلين سونغ على اختيار فضاءات، تحتوي على صُور وعلامات تستجلي عمق الحكي، كمشهد لَهْو المُراهقَين في حديقة عامّة، أمام نُصبٍ وتماثيل عملاقة، بينما تتحدّث والدتاهما عن قرار الهجرة، ليغدو تحرّك فكّ التمثال الميكانيكي تعبيراً دالاً عن دواليب القدر، التي تحاك لتحديد مستقبل علاقتهما في غفلةٍ منهما، قبل أنْ تتلفّظ نورا، والدة نا هونغ، بأول الجمل المفتاحية التي تتخلّل الفيلم: "تربح دائماً شيئاً جديداً حين تترك شيئاً ما وراءك".

هناك لمسة حزن وميلانكوليا تعبر "حيوات سابقة"، تُترجم شعور الوخز في القلب، الذي يرافق عادةً الفرص المُهدرة، لعلّ موسيقى مجموعة "غريزلي بير"، المرهفة والمتلبّدة، لعبت دوراً أساسياً في توطيدها. نوتات بيانو رقيقة تُكثّف لحظات العيش المشترك، بما فيها الصمت وتبادل النظرات بين البطلين، التي تقول أكثر وأبلغ من الحوار، خاصةً أنّهما يجنحان، بحكم الثقافة الكورية المحافظة، إلى قول أشياء لا تعكس مكنونهما، فتبرّر نورا مثلاً بحث عائلتها عن فضاء عيش أفضل في أميركا الشمالية، بقولها إنّ "الكوريين لا يفوزون بجائزة نوبل"، في إشارةٍ إلى طموحها بأنْ تصبح كاتبة، الذي يتبلور باتباعها مسار دراسة الكتابة المسرحية في كندا، ثمّ انتقالها إلى برودواي (نيويورك).

اللافت للانتباه التزام سونغ المسافة الصائبة مع سردها، الذي يجعلنا لا نسقط، في أيّ من لحظاته، في الميلودراما المائعة، أو العاطفية اللّزجة، رغم فيض الأحاسيس القوية، المنبعث من المشاهد. أبرز مثل: قوّة مشهد الفراق الأول بين المُراهقين (الذي يعود، في لحظةٍ مؤثّرة، من الفصل الأخير) عند مفترق الطرق، رغم أنّهما يكتفيان بعبارة وداع مقتضبة، قبل أن يمضي كلّ منهما في سبيله. هنا أيضا يسهم الفضاء في تلخيص رهان المشهد، عبر منحى التصاعد الذي تتبعه نورا على الدرج، والطريق الضيقة، والمنحدر الذي يسلكه هاي سانغ، في لمحة تستشرف مساره الاعتيادي في الدراسة، ثم التجنيد الإجباري، وتمضية الوقت الثالث في جلسات شرب الـ"سوجو" مع الأصدقاء.

هكذا يلتقط فيلم سيلين سونغ ثقل العادات، ودورها في ترسيخ الشخصية ورهن المستقبل، فيبدو الفصل الثاني (يذكّر بـ"هي" لسبايك جونز، 2013) إعادة لمنوال افتراق المسارين، بعد عودة التآلف، وتوطّد العلاقة الخادع بمفعول المحادثة عن بعد، إذْ سرعان ما تطفو على السطح حاجة نورا إلى العزلة الضرورية للكتابة، وطموحها المستمرّ لتحقيق ذاتها من جهة، وحضور هاي سانغ، القنوع والمكتفي بذاته، من جهة أخرى. رغم أنّ التباين كان يُمكن أن يصبح مُحفّزاً للتقارب، كما هو معلوم، لكنّ الحاصل غير ذلك، ما يدعم الإحساس المرير بالمرور قرب علاقة مثالية.

 

 

من أكثر اختيارات الحبكة إبداعاً، التصاقها التدريجي بالزمن الحقيقي، مع توالي القصة. فبعد المرور الخاطف على فترة الطفولة، تأتي مرحلة المراسلة، التي تقطّر لحظات العيش المشترك (مع لقطات عامة متوازية لسيول ونيويورك) عن بعد، ثم المفاجأة بانقطاع حبل التواصل، بمجرّد وضعنا في مناخ التآلف، قبل حلول فصل نيويورك، الأكثر اقتراباً من الزمن الحقيقي، حيث تختزل حوالي ساعة (أو نصف الفيلم) أحداثاً تجري في 48 ساعة. هذا يبعث في المشاهد ذكرى ثلاثية "قبل (Before)" لمخرجها ريتشارد لينكلايتر (1995و2004 و2013)، التي تجري في 12 ساعة، يحدّها موعد رحلة العودة، فيحوم هذا الأخير فوق الحكي كسيف ديموقليس غير مرئي، يضفي صبغة تراجيدية، ممزوجة بسحر اللحظات المنذورة بقرب الانتهاء، على مشاهد التجوّل في المدارات السياحية.

ينسج الفصل الثالث، غير المتوقَّع البتّة، تصغيراً لحبكة الفيلم الكبرى ونسقها الثلاثي: لحظة الفراق، عند توجّه هاي سانغ للمبيت في فندقه، بعد يومٍ حافلٍ بالتجوال مع نورا؛ ليلة الشكّ الآسرة بين نورا وزوجها الأميركي، والحوار الدّال بينهما عن معنى الحبّ وارتباطاته، الغنية باللغة؛ ثمّ الحوار البديع بين نورا وهاي سونغ، الذي يستدعي مفهوم "إن ـ يون" (القدر) البوذي، ليقول إنّ كلّ لقاء بين شخصين، حتى الاحتكاك غير المقصود بين الملابس في مشيهما في الشارع، يعني أن هناك علاقة ما بينهما في حياة سابقة، وأنّ الزواج بين شخصين يتوّج توالي 8 آلاف نسخة من علاقة "إن ـ يون" بينهما، في 8 آلاف حياة سابقة. يزرع هذا الحوار ـ مع جمالية المشهد الثابت، التي تتلافى اعتيادية تقطيع الحقل والحقل المقابل تارة، والتأطير غير المتناظر للبطلين، الذي يترك فراغاً في أعلى الإطار وعلى يساره تارة أخرى ـ بذور شكٍّ تنمو حتى مشهد النهاية الرائع، و"دقيقة صمتٍ" طويلة تجمع البطلين في توتّر وترقّب يحاكيان أفلام التشويق.

"حيوات سابقةٌ" جوهرة فيلمية مستقلّة (إنتاج A24)، صُوّرت على شريط 35 مم، لتبرهن مرّة أخرى كيف أنّ المقاربة المتفرّدة، بفضل التجربة المسرحية لسيلين سونغ في الكتابة وإدارة الممثّلين (إضافة إلى أصالة القصة، التي تنهل من حياتها الخاصة)، تنتج أفلاماً جيّدة غالباً، حتى عندما تنبري لأنواع سينمائية ذات تقاليد ومفاتيح محدّدة.

إنّها قدرية سؤال "ماذا لو؟"، الذي يقضّ الحكي ويحيد به، بلمسة وجودية قاتمة وساحرة في آن واحد، عن مسار الكوميديا الرومانسية التقليدية، مُعتمداً على ضربة معلّمة في الكتابة، يشتغل وفقها كلُّ فصل من الفيلم، كحياةٍ سابقةٍ/لاحقةٍ للّذي يليه/يسبقه.

المساهمون