"حورية" مونيا مدور: كتابة مبسّطة وعواطف نادرة

26 ابريل 2023
"حورية": مشاهد كثيرة تُثير برودة وإنهاكاً للمُشاهد (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

تعاني أفلامٌ ارتباكاً، بسبب عدم اكتمال في الكتابة السينمائية. هذا لا يمنع إعجاباً بها، واندماجاً بشخصياتها، وتفاعلاً مع أحداثها. ربما تسير على إيقاع بطيء، لكنّها تطفح بحيويةٍ، تُعبّر عن صدق مشاعر، وحرية رؤية غير مفتعلة. أفلامٌ تُنسي عفويتُها وحرارتها وصدقها وجدّة أفكارها عدمَ اكتمالها، أو ارتباكها.

مع "حوريّة" (2022)، للجزائرية الروسية الفرنسية مونيا مدور، الأمر مغايرٌ. كأنّ الشخصيات اصْطُنِعتْ، والأحداث رُسِمَت لفرض مشاعر معينة، لم تستطع المعالَجة السينمائية إثارتها بعفوية وسلاسة، ولم يتمكّن الإيقاع، رغم سرعته، من إثارة انطباع بحيوية أو حياة.

مع موضوع أُنهك تكراراً، في فيلم سابق للمخرجة نفسها، وفي أفلامٍ فرنسية أخرى، يكاد "حورية" يكون نسخة عنها، وأحدها "في الجسد" (2022) للفرنسي سيدريك كلابيتش، عن راقصة باليه شابّة، تصاب بجرح، وعليها التغلّب على إعاقتها وبدء التأهيل.

فيلم مدور يتابع حورية، الشخصية الرئيسية (لينا خُضري): شابّة تتمتّع بجاذبية كبيرة، تعمل نهاراً عاملة تنظيف في فندق، وتتابع ليلاً دروساً في الرقص، في مدرسة تديرها أمها (رشيدة براكني)، مُقامة في حيّ شعبي. طموحها نيل شهادة تخوّلها العمل راقصة تعبيرية، أو معلّمة رياضة. للحصول على مزيد من المال، لغرض سرّي، يتبيّن نبله لاحقاً (إهداء أمّها سيارة)، تغامر ليلاً في الذهاب إلى حيّ غير مأمون لفتاة مثلها، تجري فيه مباريات صراع تيوس، مُتداوَلة في الجزائر، وتُراهن على أحدها. رغم تنكّرها، يلفت وجودها في مكان ذكوريّ بحت انتباه أحدهم. يتبعها بعد ربحها مبلغاً كبيراً، ويتعارك معها لاسترداد المال. تقاوم. يدفعها بعنف، فتتدحرج على درج، وتصاب بكسورٍ تقضي على أحلامها في الرقص.

في هذه المشاهد الأخيرة، تركّزت الإضاءة على الشخصيات لا المحيط. ولعلّ تصوير الفيلم في مرسيليا لا في الجزائر فرض ذلك.

كالمتوقّع تماماً، تسعى حورية، بعد فترة عزلة، إلى بناء نفسها مجدّداً، وإعادة تأهيل قدراتها الجسدية. منذ تلك اللحظة، يرتسم تعبيرُ حزنٍ، يخالطه شيء من التحدّي، على وجهها، تداوم عليه الفيلم كلّه. الأمّ، رغم عملها مدرّبة رقص باليه، وراقصة أفراح في الوقت نفسه، تقف إلى جانبها، وتحرّضها على الكفاح، كما كافحت هي بعد اغتيال الزوج في عملية إرهابية. تروي الأمُّ الحدثَ لابنتها الشابّة، كأنّ الفتاة غير عالمةٍ به. اختيار زمن المكاشفة، في مشهد في السيارة، مفاجئ، من دون مقدّمات أو سياق. في هذا العمر، تعرف الفتاة ما حصل لوالدها. لكنْ، كمشاهد أخرى كثيرة، ملأ لحظات فارغة، ونصاً تبسيطياً (كتابة مدور).

تعبئة وقتٍ، في لقاءات طويلة لا تنتهي لتجمّعات نساء، جميعهنّ جميلات وأنيقات، يتمايلن ويأكلن ويلهون في مدينة الملاهي، ويتشاركن الأفراح والأتراح، ويبتسمن أحياناً، وتنهمر دموعهنّ أحياناً أخرى. يرتدين أثواباً بيضاء، للتعبير عن نقاء وشفافية، خاصة عندما يكون موقع التصوير طبيعةً خلاّبة، يتدفّق فيها نهرٌ عذب، والجميلات يتراشقن بالماء، وضحكاتهنّ تملأ المكان. هكذا، يكون التأثير أعظم.

في الواقع، الحيادية، بل البرودة على نحو أدقّ، التي تثيرها مَشَاهد كتلك، عظيمةٌ. هؤلاء النساء يحاولن تجاوز ذواتهن، وهذا يعني وجوب أنْ يحصدن عنه تفاعلاً وتضامناً. هنّ مُصابات بخرسٍ متأتٍ من صدمة أو مأساة لحقت بهن: اغتيال زوج، اعتداء جسدي، مثلاً. يتابعن علاجاً نفسياً، لتتسلّل إليهن متعة الحياة مجدّداً. حورية، التي فقدت النطق، أو ربما رفضته بعد الاعتداء عليها، انضمّت إليهن. ثم تطوّعت لتعليمهن الرقص التعبيري، ليكون وسيلتهن للعبور إلى ضفافٍ أخرى. هذا فعلنه وحدهن، فالمُشَاهد سيبقى على كرسيّه يتململ بانتظار انتهاء مَشَاهد اجتماعاتهن، المفتعلة والصامتة إلا من ضحكات متكلّفة، وتحرّكات في المكان، يحاولن عبرها بثّ حرارة في اللاحدث.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

تحاول مونيا مدور، مجدّداً، كما فعلت في فيلمها الأول "بابيشا" (2019)، سَبْر المجتمع الجزائري المعاصر، اجتماعياً وسياسياً، بما فيه من ذكورية وإرهاب، ورغبة مواطنيه في الهروب. تكرّر العناصر نفسها لفيلمها الأول، من قهر المرأة الجزائرية إلى العشرية السوداء، وإنْ اختلف مستوى الأهمية هنا. فالسياق السياسي في "حورية" يظهر فجأة، ثم يختفي كما ظهر. تُهمله المعالَجَة تماماً، مع تركيز على الرقص، واقتراب من حركة الأجساد وتعابير الوجوه، في مجتمع نسويّ بالكامل. الرجل منزاحٌ منه، إلا حين يلزم لاعتداءٍ على المرأة أو المجتمع (الإرهابيون)، أو لإظهاره سخيفاً، يهتمّ ببطنه فقط، وليس بأداء جيد لعمله (الشرطي). هناك رجال ظرفاء يزيّنون المشهد، لكنّهم يبقون على حافته. يظهر شباب الحيّ ليغازلوا البطلات، وليسترقوا النظر إليهنّ في تدريباتهن، لكنْ بكلّ لطف. كما لا يخلو الأمر من امرأة شريرة بغيضة، تحتقر الراقصات، ولا تهتمّ بعملها (الشرطية).

لا علاقة لمجتمع النسوة الجزائري هذا بالرجل. غاب الرجال، وغاب الحوار. وكونهنّ بكْمَاوات، أُنقِذ الفيلم، وتمّ التخلّص من عبء حوار ورؤية وطرح أفكار. لحسن الحظّ، هناك الرقص للتعبير عن أحاسيس، والموسيقى للمساهمة في تأكيد الأثر المطلوب. لكنْ، في فيلمٍ سينمائي، يتطلّب البناء شيئاً آخر مُغايراً، لكاميرا تنتقل بعشوائية بين لقطات ومشاهد مُقحمة، في حركة سريعة ومتعبة، لإعطاء انطباع بحيوية أو حياة. الإخراج تجميعٌ لاسكتشات متنوّعة، أو "فيديو كليب"، لا سرد واحد متكامل ومتماسك.

أنْ تنظر حورية نظرة تحدٍّ دائمة، وأنْ ترفع ذراعيها في الهواء، وتجعل شعرها يتطاير، في مَشَاهد متكرّرة، لا يمرِّر انفعالات داخلية لشخصيةٍ، لم تُرسم جيداً، في فيلم قائم على كتابة مُبسّطة؛ هذا كلّه لم يُثر إلا عواطف قليلة.

المساهمون