"حكايات من المخيّم"... فنانون فلسطينيون يعيدون الاعتبار للذاكرة

04 سبتمبر 2023
أقيم العرض في مركز خليل السكاكيني في رام الله (العربي الجديد)
+ الخط -

أبكت وبكت، هذا ما فعلته دون قصد الفنانة الفلسطينية ميساء الخطيب، وهي تروي حكاياتها وأسرتها في مخيمي تل الزعتر وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في لبنان، وخاصةً تلك المتعلقة بالمجازر التي راح ضحيتها عددٌ من أقاربها، وجيرانها، والأصدقاء، وغيرهم.

ارتدت الخطيب بنطلوناً وقميصاً أسودين، جلست على المقعد في المنتصف، بين الفنانيْن أسامة ملحس وفتحي عبد الرحمن، وبدأت في قص حكاياتها على خلفية صورة لوالدتها التي استطاعت اختراق حصار مخيم تل الزعتر، وكانت تصرخ وتبكي، وهي تتفحص القتلى.

وكانت ميساء تستعيد الحكايات السوداء كملابسها، وكلامها يبث القشعريرة في الحضور، لا سيما عند حديثها عن نجاتها من رصاص القناصة وهي تنقل الماء من البئر إلى المنزل، قبل أن يختلط بالدم، وتفشل في مهمّتها.

كان ذلك في الأمسية التي حملت عنوان "حكايات من المخيم" في "عليّة" مركز خليل السكاكيني الثقافي بمدينة رام الله، مساء الثلاثين من أغسطس/ آب 2023، بعد أشهر على عرضهم الأول الذي احتضنته جمعية المسرح الشعبي بمخيم الأمعري للاجئين الفلسطينيين قرب مدينة رام الله، بالتزامن مع إحياء الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة.

ولفت مدير المسرح الشعبي، الفنان فتحي عبد الرحمن، إلى أن الحيرة رافقت فريق العمل بخصوص الجانب الذي من المفترض التركيز عليه في حكايات الفنانين بين المآسي أو القصص اليومية أو الأمور التي يمكن وصفها بالاستثنائية ومن غير الممكن حدوثها إلا في جغرافيا المخيّم. وفي نهاية المطاف توافقوا أن تشكل الفقرات مع بعضها البعض "خلطة من الحكايات"، خاصة "أن في كل مخيّم مئات بل آلاف الحكايات، وهي جزء من تاريخنا الشفوي، التي يجب توثيقها وتوارثها عبر نقلها إلى الأجيال التالية".

وسرد عبد الرحمن حكاية رقيّة التي كانت أشبه بمختارة في مخيم الحسين للاجئين الفلسطينيين بالعاصمة الأردنية عمّان، على عكس السائد، واصفاً إياها بالمحبوبة والمُقدّرة، متحدثا عن دورها الإيجابي الكبير في حل الإشكاليّات العامة والخاصة، حتى تلك التي بين الأزواج، لا سيما بعد وفاة زوجها.

ولرقية أربعة أبناء مناصفة ما بين إناث وذكور، البنت الأولى انقطعت أخبار زوجها عام 1947 أثناء قتاله الصهاينة، ولم يظهر مجدداً. أمّا الثانية فهاجر زوجها رفقة أهله إلى قطاع غزة إبّان النكبة، ومنذ سنوات لم يتواصل معها، بينما قرّر الابن الأكبر الهجرة للعمل في البرازيل، وكذلك فعل شقيقه. دفع ذلك رقية إلى تزويج ابنتيها بعد تطليقهما غيابيّاً، فيما أخذت على عاتقها تربية الأحفاد من أبناء البنات، لتتوالى حكايات "الحاجة رقية" بتفاصيلها المثيرة.

وانصبّ حديث الفنان أسامة ملحس، خلال استعراضه لتفاصيل من مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة، على قرية المسميّة المهجّرة، والتي توجه الكثير من سكانها إلى ذلك المخيم، قبل أن يصير مخيماً رسمياً، واستعاد حكايات الجد عبد الحميد، وعيد الناطور، قبيل اقتحام القرية من العصابات الصهيونية، وأثناء الاقتحام وما بعده، وكيف قاتل المسلحون دفاعاً عن قريتهم، فيما تولى الرجال من غير المسلحين مهمة إخراج العائلات، وخاصة النساء والأطفال والشيوخ إلى مناطق آمنة.

واصل سرد الحكاية وصولاً إلى شاطئ بحر غزة، كاشفاً أن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) استأجرت الأرض التي أقامت عليها مخيم الشاطئ من أصحابها لتسعة وتسعين عاماً، مرّ منها خمسة وسبعون، وهو ما يؤكد، حسب ملحس، أن ثمة مخططاً ما وراء استئجار الأرض قرابة القرن، بينما كان اللاجئون يمنّون النفس بعودة قريبة خلال أسابيع كحدّ أقصى.

إعلام وحريات
التحديثات الحية

وتناول الفنان حسين نخلة في العدد الأول مآسي مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في سورية، وكيف بناه أبناؤه من المهاجرين إلى الولايات المتحدة وأوروبا، ليأخذ طابعاً مدينياً يختلف عن كافة مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين خارج فلسطين وداخلها، بل إنه شكّل مساحة اتسعت لتكوين حالة ثقافية عبر العديد من الفرق متعددة أشكال الفنون التي تقدمها، وأبرزها فرق: "العاشقين" و"الأرض" و"حنين"، وغيرها، إضافة إلى عديد من الممثلين في الدراما السورية مثل خالد تاجا، وعبد الرحمن أبو القاسم، ويوسف حنّا وغيرهم، قبل أن ينتقل لحكاية أبو علي الصفوري وأسرته التي هاجرت على دفعات إلى بيروت ومنها إلى ألمانيا، وبطريقة أقرب إلى المعجزة.

كان ذلك بعد اندلاع الحرب في سورية، وتحول المخيم إلى مسرحٍ للقتل، مركزا على حكاية ابنته الكبرى مرام، التي تأخرت في الوصول إلى لبنان، وقررت البقاء فيه للعمل مع فرق تغيث اللاجئين الفلسطينيين والسوريين في بيروت.

وكان لافتاً تلك الحكايات التي نقلها الفنان شاهر هارون عن مخيم الأمعري للاجئين قرب رام الله، من بينها حكاية أول "شتوة" بعد النكبة، والتي تراكمت فيها الثلوج كما انهالت فيها الأمطار بغزارة، فيما بدأت تنهار الخيام، وكان المتطوع الأبرز، وقتذاك، الشاب حنقص حافيّ القدمين، وبقي حتى أتمّ مع رفاقه ما أمكنه القيام به، لكن البرد أكل من رجليه اللتين كانتا مزرقتين حتى تم بترهما في المستشفى.

وتحدث هارون أيضاً عن الحاج الحتو، الذي وصفه بأنّه "شخصية فريدة من نوعها"، هو الذي كان يردّد على الدوام بالدارجة: "راحت عليكو يا أولاد العز، صرتوا لاجئين.. راحت عليكو يا أولاد العز، وع صف التموين صافّين".

نبش الفنانون في ذاكرتهم الشخصية كنوعٍ من الإسقاط على ذاكرة جمعية للشعب الفلسطيني بأكمله، وفي محاولة منهم لمنع تراكم الصدأ عليها، أو محاولات طمسها ومحوها، لا سيّما بعد رحيل النسبة الأكبر ممّن عايشوا حكايات التهجير في عام 1948.

المساهمون