حكايات المنزل: بيت تسكنه اللعنات والقوارض البشرية

25 أكتوبر 2022
تجري أحداث القصة الثانية في أميركا خلال فترة الركود بين عامي 2007 و2009 (نتفيلكس)
+ الخط -

يقدم فيلم The House ("حكايات المنزل"، 2022) ثلاث قصص متحركة، تحكي تاريخًا متخيلًا لمنزل طابقي واسع، مرت عليه أزمان متعددة ومستوطنون مختلفون، يتنوعون بين البشر والقوارض والقطط الناطقة. ألّف الكاتب المسرحي الأيرلندي إيندا والش القصص الثلاث، وأخرج كلًا منها مخرج مختلف، وهم إيما دي سويف ومارك جيمس رويلز، ونيكي ليندروث فون بار، وبالوما بايزا، لتتشارك أعمالهم في مجملها نغمة مربكة وسريالية، تصف العلاقة المعقدة التي يبنيها السكان، بشراً كانوا أم حيوانات، مع مساكنهم، سواءَ استلبت منهم، أو انتزعوها عنوة، أم تلاحموا معها إلى حد التلاشي والاضمحلال.
تتمحور الحكاية الأولى حول عائلة ريفية فقيرة، تباغتها زيارة من أقاربها الأثرياء المتعجرفين. تتسبب تلك الزيارة بإزعاج شديد للوالد، إدموند، ليقرّر على إثرها عقد صفقة، تشبه صفقة فاوست، مع المهندس المعماري فان شونبيك، لاستبدال منزلهم القديم بآخر جديد ومؤثث بأحدث المفروشات.
تنتقل العائلة إلى المسكن المُترف، وسرعان ما تغرق في فخ الاستهلاك المفرط لكل وسائل الراحة المتوفرة مجانًا ضمن المنزل، باستثناء الابنة الصغيرة، مايبل (ميا غوث)، وشقيقتها الرضيعة، التي ترى في الظلال ما يعجز والداها (ماثيو غود وكلوديا بلاكلي) عن رؤيته بفعل غشاوة الجشع، كعمال البناء المنهمكين في ظلام وصمت مريبين، والتعديلات اليومية التي يجريها المهندس على بنية البيت وأثاثه، وصولًا إلى الزي الجديد الذي يمنحه شونبيك للوالدين الطامعين، وقد صممه على هيئة أثاث منزلي، سيبتلع جسدي الوالدين في آخر الحكاية، حتى يغدوَا قطع أثاث تلتهمها النيران.
أما القصة الثانية، فأبطالها من القوارض المتحدثة، إذ يعمل مطور برامج (جارفيس كوكر) بلا اسم على عرض منزل فخم للبيع، محاولًا إخفاء عيوبه العديدة، وأسوأها غزو الخنافس والحشرات البنية التحتية للمنزل، بحلول سطحية وتجميلية لا تعالج المشكلة. يفلح المطور في جذب انتباه زبونين، قارضين، يطلبان رؤية إحدى غرف النوم، ثم يقرّران المكوث فيه من دون أي مبرر باستثناء إبداء اهتمامهما المستمر بشراء المنزل للمطور الذي ينصاع لرغباتهما، حتى يستوليا بشكل كلي على بيته برفقة مجموعة من الأصدقاء والأقارب الآخرين.
لا تقل القصة الثالثة غرابة، فهي عن مؤجرة منزل، تُدعى روزا (سوزان ووكوما)؛ قطة تعيش في منزل يغرق كل ما حوله بالمياه بسبب فيضان. لكنها، مع ذلك، ترفض الاستسلام للطوفان القادم قريبًا، وتضع في كل يوم خططًا عديدة لإعادة إصلاح المنزل، وتحاول باستمرار إعادة إلصاق ورق الجدران الذي يتساقط بفعل الرطوبة، مطالبة مستأجريها الاثنين، والأصح تسميتهما بالناجيين، بدفع النقود مقابل إقامتهما، مع أن النقود لم يعد لها قيمة وسط ذلك المكان المعزول عما حوله بالمياه. يغادر المستأجران للعثور على مرسى أكثر أمانًا، وفي النهاية تقتنع روزا بالمغادرة أيضًا، فتقود منزلها في عرض البحر إلى مكان آخر.
من الصعب اختصار القصص الثلاث في معان محددة، إذ يتعمد فيلم "حكايات المنزل" ترك المشاهد مع وابل من الأسئلة، بدلًا من تقديم إجابات واضحة وسهلة، محيطًا إياها باللغز الذي يسمح للمشاهد بالتفاعل مع مجرياتها، لكن من دون أن يشبع من فضوله، فينطلق في رحلة لفهم المنطق الكامن وراءها، باحثًا عن الأدلة البصرية التي تُتيح له ربط القصص ببعضها واستنتاج المعنى من خلفها.


تنقل القصة الأولى أجواءً فكتورية مظلمة، لكنها تستند في بنائها إلى الدراما الإغريقية المسرحية إلى حد بعيد، إذ يودي الخطأ التراجيدي، وهو عيب في الشخصية، بالبطل ويتسبب في هلاكه المبكر. الجشع هو العيب التراجيدي في حالة إدموند الشرِه للنجاح والرفاهية، من دون استعداد للكد من أجل تحقيق مراده. يتناول إدموند الطعام بشراهة شديدة، ولا يتوانى عن حرق أثاث منزله القديم، ومن ضمنه منزل ألعاب طفلته، لإيقاد نار المدفأة الجديدة، ويحمل في داخله حقدًا دفينًا على طبقته وأبنائها، يكلله بالسعادة المطلقة التي يعبر عنها لدى هدم منزله القديم، ما يجعله فردًا إشكاليًا، يرفض العالم الذي ينتمي إليه، ويرفضه العالم الذي يشتهيه أيضًا، مانعًا إياه من الانتماء إليه، إذ تنفي التعديلات المستمرة على بناء المنزل فكرة الاستقرار والمألوف التي تميّز مفهوم المنزل، وتستبدلها بأغراض جديدة، تُرمى وتتغير وتتعدل مع كل يوم جديد.
كذلك، تلازم الزوجة ماكينة الخياطة طوال يومها، في إشارة إلى العبودية المعاصرة وطرقها غير المباشرة في تحويل الأفراد طوعيًا إلى ماكينات هدفها الربح. يتكئ الأشخاص على الحاجيات المادية، إلى حد يجعلهم يتلاشون أمامها، لتصبح هي هويتهم الوحيدة، الأمر الذي عبر عنه المخرجان مع تحول الزوجين إلى قطع أثاث، كتلك التي لطالما حلما بامتلاكها. يتحول المشتهى والمقدس إلى جحيم وكابوس لا ينتهيان في القصة الأولى، ويتحول الحلم إلى قاتل، والمنزل إلى محرقة.
أما قصة المطور التي تجري أحداثها في أميركا خلال فترة الركود بين عامي 2007 و2009 فتتناول أحلام الطبقة الوسطى وصراعها المستمر للابتعاد عن خط الفقر القريب جدًا، باستثمارات مهددة بالخسارة، للافتقار إلى عوامل النجاح من خبرات وتجارب ومعارف ورأس مال كبير يتحمل الصدمات المالية الكبرى.
على خلاف المستثمر الثري، يخشى المطور الخسارة، لأنه ليس بوسعه تحمل تكاليفها. "لقد استثمرت حياتي كلها في هذا المنزل"، يصيح بطل القصة، فيما يرى بيته الجديد يتهاوى وبنيته التحتية تتآكل ببطء أمام عينيه. تقترح القصة الثانية أن الفقراء ليسوا تجارًا ماهرين، بل هم أسرى مخاوفهم المادية، ما يجعلهم عرضة بشكل كبير إلى الإخفاق في مشاريعهم.

فعندما يلمح المطور فرصة للربح، تتمثل في المشتريين المحتملين، يغدو رهن تلك الاحتمالية وعبدًا لها، على الرغم من معرفته المؤكدة بضآلة الفرصة، إذ لا يقدم المشتريان المحتملان أي منفعة للمطور، بل يعتاشان على نفقته، ويخربان منزله، محولين إياه إلى استثمار فاشل، ومكتفيين بترديد جملة: "نحن مهتمان جدًا بالمنزل"، التي تجعل المطور لاهثًا باستمرار وراء "الفرصة"، وتحوله من قارض متكلم إلى قارض حقيقي، يمشي على أربع، مدمرًا ما تبقى من منزله بأسنانه.

سينما ودراما
التحديثات الحية

وبعد جرعة الكآبة العالية في القصتين السابقتين، تقدم القصة الثالثة أملًا بسيطًا في نهايتها المتخيلة، فروزا التي تشبثت طويلًا بمنزلها المتلاشي، محاولة إصلاحه وترميمه من دون جدوى، تتقبل أخيرًا فكرة المضي قدمًا، وتأتيها المساعدة من حيث لم تتوقع أبدًا؛ قط هيبي أزعجتها زيارته في البداية، لتقتنع أخيرًا بنهجه الغريب والعملي في آن، فتتخلى عن كل ما كبلها سابقًا، وتبحر بمنزلها إلى المجهول الذي كانت ترتعب منه سابقًا، مفضلة البقاء في مساحتها الآمنة الوهمية.
يقدم الفيلم الذي أنتجته Nexus Studios، وتبثه "نتفليكس"، إذهالًا بصريًا قل مثيله، وبراعة هائلة في تقنية التحريك والقدرة على رصد التفاصيل الحسية والعصور الزمنية المختلفة مع إبراز تشابكاتها أيضًا، فمن القرن التاسع عشر الميلادي إلى الألفية الثانية، وصولًا إلى عالم ديستوبي متخيل، يمثل المستقبل، تتشارك القصة الممتدة عبر الزمن أفكارًا عن المادية والرأسمالية والجشع والمثالية والوحدة... وعن الخلاص أيضًا.

المساهمون