حسن بنجلون: لم أتأثّر بسينما حسن الإمام إطلاقاً

15 يناير 2023
بنجلون: الفتيات والنساء يحتجن إلى الاعتراف بالكرامة (من المخرج)
+ الخط -

حسن بنجلون أحد السينمائيين المغاربة الذين تجذب أعمالهم الجمهور المحلّي، لكنّها، في الوقت نفسه، لا تلقى إعجاب النقّاد، بل هجومهم اللاذع. مع ذلك، يستمرّ في تحقيق أفلامٍ تُشارك في مهرجانات عربية مختلفة، أحدثها "جلال الدين" المُشارك في مسابقة آفاق السينما العربية، في الدورة الـ44 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي

كيف كان استقبال الجمهور المصري للفيلم؟
استقبالا جيّدا، لأنّ الفيلم يطرح تساؤلات عدّة، والجمهور تلقّاه في هذا الاتجاه. الفيلم خلق بعض التشوّش عند الجمهور المصري. ربما يتّفقون وربما يختلفون حول بعض المصطلحات، مثل: ما الحقيقة؟ ما الحبّ؟ ما المسامحة؟ هذا هدفي: أنْ يُثير "جلال الدين" نقاشاً وتصادماً داخلياً عند المتلقّي.

متى وُلدت فكرة الفيلم؟
الفكرة قديمة. عشتُ في وسطٍ لن أقول إنّه ديني مائة في المائة، لكنْ يُمكن أنْ أصفه بأنّه روحانيّ.

الأسرة أم المحيط؟
الأسرة. في الوقت نفسه، عشتُ في مدينةٍ فيها فساد ودعارة وأشياء عدّة. مدينة معروفة بهذا النشاط.

تقصد استغلال النساء جسدياً؟
نعم. عشتُ التناقض بين الروحانيات والدعارة ودورها وآثارها. تواجد الجانبان معاً في "الزنقة" نفسها. لكنّي نشأتُ أيضاً على المسامحة. شاهدتها وعشتها.

لم تكن هناك محاكمة لمثل تلك النساء، أو حكمٌ أخلاقيّ عليهنّ بأنّهنّ سيئات الخلق؟
إطلاقاً. لم يكن هناك شيء من هذا. كان هناك تسامحٌ وتعاملٌ معهنّ بشكل طبيعي.

وماذا عن النظرة المُهينة لهذه النساء، لأنّ المرأة التي كانت تدير هذا النشاط في "جلال الدين" قالت، وهي في السجن، إنّها تُريد أنْ تستعيد كرامتها، لأنّها أُهينت؟
لأنّها لم تُرد دراهم وأموالاً. كانت تُريد استعادة كرامتها. هذا هدفها، فالفتيات والنساء يحتجن إلى الاعتراف بالكرامة. هذا هو المهمّ.

هلاّ وصفت لنا الوسط الديني الذي نشأتَ فيه؟
منذ صغري، كان أبي يحتفي، دائماً، كلّ سنة، بطقوسٍ دينية، بالقرآن أو "الجذبة" (وتعني الشطح الصوفي)، وبأشياء أخرى. عندما كبرتُ، ارتبطتُ بأصدقاءٍ جمعتنا لقاءات روحية، يأتي الناس إليها من دول مختلفة، يهودٌ ومسيحيون ومسلمون. نلتقي ونذكر الله ونتقرّب إليه. كنّا نبحث عن الحقيقة والحب. خلق التبادل الفكري والنقاشات وأشياء عدّة شخصيتي الحالية. من هنا، وُلدت فكرة "جلال الدين"، بسبب حياتي في الطفولة، الموزّعة بين الطقوس الروحية وعوالم الفساد.

هذا يُفسّر اختيارك هذه المعالجة، لأنّي في البداية تساءلتُ عن جرأتك في أنْ تتناول الجانب الروحي بتلك الشاعرية، ثم تجعل الجانب الآخر من الفيلم مصبوغاً بروح سينما حسن الإمام؟
لا. لم أتأثّر بسينما حسن الإمام إطلاقاً. شاهدتُ أفلامه، لكنّي لم أتأثّر به، بل بحياتي الطبيعية والمحيط والجيران.

أنتَ مُخرج غزير الإنتاج. في عامٍ واحد، قدّمت "حبيبة" (عُرض في الدورة الـ27 لـ"مهرجان تطوان الدولي لسينما البحر الأبيض المتوسط"، بين 10 و17 يونيو/حزيران 2022)، ثم بعده بما لا يقلّ عن 3 أشهر، عُرض لك فيلمٌ آخر في "مهرجان القاهرة". كيف تستطيع ذلك؟
"حبيبة" لا يزال يواصل جولته في المهرجانات، كالرباط، ومهرجان ديسبورا في نيويورك.

كيف تحصل على تمويل لفيلمين لك في عامٍ واحد، بينما لا يستطيع مخرجون آخرون الحصول على تمويل لفيلمٍ واحد؟
"حبيبة" لم يحصل على تمويل، بل أُنتِج بتمويل شخصي. أمكنة تصويره محدودة، والممثلون لم يتقاضوا أجوراً بل مبالغ بسيطة. الفتاة التي أدّت الدور الأساسيّ شاركت معي في "جلال الدين" أيضاً.

تقصد مليكة جوليا؟ أداؤها في "حبيبة" أكثر تلقائياً ومصداقية. في "جلال الدين"، اتّسم أداؤها بالمبالغة، خاصة في المشاهد الانفعالية التي تصرخ وتبكي فيها. بينما أداء فاطمة ناصر، في دور زوجة جلال الدين، أكثر إقناعاً. أداء فاطمة الزهراء في دور الأم جيّد ومنطقي، أحياناً عدّة، لكنّها قدّمت أداءً مدرسياً، أحياناً أخرى، له صوت مرتفع وانفعالي.
لأنّ دور جوليا في "حبيبة" بسيطٌ وعادي، وأغلبه صمت، أو كلمات هادئة في الحوار. الدور في "جلال الدين" مُركّب، فهي تؤدّي دور فتاة ليل، ثم أم وحبيبة وزوجة.

أعتقد أنّها بالمشاهد الانفعالية، التي يكون فيها توتّر مكتوم، كانت تُجيد الأداء. بينما مشاهد الصراخ أو التعبير الانفعالي المنفجر، كانت فيها مُفتعلة وبعيدة عن التلقائية.
أتفق معك.

كيف تختار الممثلين، أثناء الكتابة، أم بعد الانتهاء منها؟
- قرّرت أنْ تؤدّي فاطمة ناصر الدور أثناء كتابة السيناريو. اخترتُ لجلال الدين خالد أبو النجا، الذي وافق على الدور مبدياً إعجابه به ورغبته في المُشاركة في الإنتاج. لكنّ السيناريو تعطّل طويلاً، 6 أعوام، وتأخّرت في تنفيذه، فانطفأت الحماسة، ولم تبقَ العلاقات كما كانت. أصبح مشغولاً في أشياء أخرى.

أدّى ياسين أحجام شخصية جلال الدين بشكل جيّد جداً. كذلك الحفيد والابن، خاصة في المرحلة الأولى. لكنْ، في مشهد تحطيم الأشياء، ربما كان الوحيد غير المُقنع.
ربما. لكنّ هذا الأداء بسبب المفاجأة، لأنّ حياته كلّها تحطّمت. خسر والديه وحبيبته وزوجته وابنه.

تصرّفه هذا لم يكن مُقنعاً بقدر كافٍ، لأنّه اختار حبيبته وهي تمارس هذا العمل. كان يعرف تاريخها وطبيعة عملها. حين رأى شريط الفيديو، هذا يطرح تساؤلاً: هل كلّ ما أثّر فيه أنّ والده أحد الذين مارست زوجته معه هذا الفعل في الماضي؟ هو سامحها وغفر لها الماضي. لماذا الثورة إذاً؟
التسامح شائعٌ في المغرب. هناك أناس تعرّفوا إلى نساء في الشوارع. في البداية، كانت العلاقة تجارية، ثم تحوّلت إلى علاقة حبّ، وتبادل الودّ، وتكوين عائلات. بعضهم ارتبط براقصات، وبعضهم الآخر بفتيات من الشارع، البعض ارتبط بهنّ لممارسة الدعارة، ثم كوّنوا حياة كريمة ونقيّة وشفّافة وعادية. الجدّة التي توفيت كان زوجها يتيماً، من ملجأ خيري، وعائلتها رفضته، لكنّها أصرّت عليه. الصراع هو بين الواقع والتسامح منذ بداية الفيلم حتّى نهايته. هناك اختلاف بين المُشاهدين، الذين لا يخرجون منه هادئين.

مشهد الابن هذا يُفترض به أنْ يكون ميلودراما. مع ذلك، ضحك الجمهور. ماذا كان شعورك؟
في كتابة السيناريو، أعرف متى يضحك الجمهور، ومتى يتنهّد ويلتقط أنفاسه. مثلاً، في "حبيبة"، عندما يستقلّ العم سيارة الأجرة، كان الجمهور في العروض كلّها يتنفّس أو يتنهّد. أما في "جلال الدين"، فكانت التوقّعات بأشكالٍ مختلفة.

هل توقّعت أنْ يضحك الجمهور في هذا المشهد؟
كلا.

لديك مشاهد شديدة الشاعرية، صوفية جداً، تأخذنا معها. هذا صنع توازناً للفيلم. لكنْ، في الوقت نفسه، هناك مشاهد يكون المتلقّي فيها أسبق من الفعل الدرامي. لماذا؟
- لاحترام ذكائه.

لكنك تضرب على سقف توقّعاته.
- حتى أترك له مجالاً للتفكير والمفاجأة.

ما أقصده شيء آخر: أحياناً، أعرفُ ما سيحدث قبل حدوثه في الفيلم؟
أعطني مثلاً.

هذا واضحٌ جداً في العلاقة بين جلال الدين وزوجته، وبين الابن وزوجته.
هذا عادي. أريد أنْ يكتب المتفرّجُ الفيلمَ معي، لا أريد أنْ أُفاجئه.

هل تُفكّر في الجمهور أثناء الكتابة؟
لا.

لكنّك تهتمّ به.
أهتمّ فقط بأنْ يكون شريكاً لي في الكتابة، وبأنْ تكون الكتابة بسيطة، حتّى يفهم القصة والمعنى المباشر، من دون عمق، فتكون الكتابة سطرية سهلة، وأترك له جزءاً آخر أعمق.

بعض زملائك المغاربة لهم تحفّظات على أفلامك، خاصة النقّاد.
جميع الذين رأيتهم في تطوان أصدقاء لي، لكنّهم يكرهون سينما حسن بنجلون.

لماذا؟
لا أهتمّ بآرائهم.

تقول لهم إنّ السينما التي تصنعها تجذب الجمهور، والجمهور يدعمك. أهذا صحيح؟
أقول لهم إنّي لا أحتاج إليكم، وأنتم قليلو العدد، الذي لا يتجاوز 50 شخصاً، لهم حظّ أنّهم يكتبون، وآخر أنّ المغربيّ لا يقرأ. إذاً، إنّهم يكتبون لأنفسهم ولأصدقائهم، ولا أحد يعرفهم. نورالدين الصايل كان يقول لي: "لا أحبّ السينما التي تصنعها. لكنّي أجد متعة في مشاهدتها، ولا أفهم لماذا". مرّت الأيام، ثم أخبرني السبب: "لأنّك صيدليٌّ يُجيد تركيب النسب ووضعها بين مكوّنات العناصر الدوائية. هذه الخبرة جعلتك تضبط النسب، وتحقّق التوازن في العمل الفني".

ما أنقذ "جلال الدين" من السقوط هذه المهارة في خلق توازن، والمراوحة بين الجزء الميلودرامي ونظيره الصوفيّ. الفيلم من دون هذا الجزء كان سيسقط في الفجاجة. فإذا كان ميلودراما فقط كان سيسقط سقوطاً مروّعاً، خاصة مع الجمهور المصري، المعروف بأنّه صعب المراس، ولا يتقبّل شيئاً بسهولة.
لو كان الفيلم صوفياً فقط كان سيسقط أيضاً. لأنّي صيدليّ، لديّ حسّ الخلطة، ولأنّي مخلصٌ لنفسي، إذاً أقدّم سينما مخلصة، يشعر بها المتلقّي من دون نفاق أو ادّعاء. أيضاً، لا بُدّ أنْ أنظر إلى حدود الميزانية، التي تؤثّر على صورة العمل والمستوى الذي يخرج به. إضافةً إلى أنّ لي، في النهاية، حدوداً في طاقتي وقدراتي وموهبتي. عندي إحساس وتراكم ثقافي، ومع ذلك أنا محدود الموهبة. لا أقول إنّي صنعتُ فيلماً عظيماً. لا. قتلت الـ"أنا" عندي منذ القِدم.

متّى قرّرت أنْ تُصبح سينمائياً، قبل ممارسة الصيدلة أم بعدها؟
منذ الطفولة، كنتُ أظنّ أنّي سأكون سينمائياً. كبرتُ في "الحلقة" التي يروي فيها رجلٌ حكايات، وكنّا نتنقل خلفه ونتابعه. كنتُ أتخيّل الشخصيات، ملابسها وتصرّفاتها وكيف تتحرّك. في البيت، مساء، كانت أمي تحكي لي حكايات خرافية. كان الخيال عندي يتغذّى منذ الطفولة، وكنتُ أحبّ أنْ أحكي منذ أنْ كنتُ في المدرسة الداخلية. كان أصحابي وزملائي في المدرسة يُنصتون إليّ، وأخي الأكبر يقطع صُوراً من الأفلام ويضعها في كرّاس. كنتُ أفتح الكرّاسات وأُشاهد الصُوَر وأتأمّلها. صُوَر الفتيات والممثلات. عندما نلتُ شهادة البكالوريا، قلتُ إنّي سأدرس السينما. لكنّ أبي وأخي قالا لي: "ماذا تقصد بالسينما؟ ادرس مهنةً تجعلك تعمل جيّداً في مهنةٍ لتكسب رزقك. اعمل صيدليا أو طبيبا"، فاخترتُ الصيدلة. جيدٌ للغاية أنّي انصعْتُ إلى رغبتهما. أشكرهما ليلاً ونهاراً.

لماذا؟
لأنّي أعملُ الآن السينما التي أحبّها، ولأنّ توفير سُبل العيش مضمونٌ بفضل مهنة أخرى. لا أصنع سينما كي أعيش.

ماذا عن الأفكار أو الشخصية التي تتمنّى أنْ تصنع عنها فيلماً؟
شخصية أبي. إنّه رجلٌ أمّيّ، أقصد أنّه لا يعرف أنْ يكتب اسمه، لكنّي الآن أعيش بأفكاره. كان واسع الأفق، ومتسامحاً. ستجدين في "حبيبة" الكثير منه في شخصية الموسيقار.

المُدهش أنّك لم تُفكر في تحقيق فيلمٍ عن والدتك، رغم قولك إنّك متأثّر بها وبأسلوبها في الحكي منذ طفولتك.
لأنّ أمي شخصية عادية مقارنة بأبي. عشتُ في أسرة متسامحة. تزوّج أبي 3 نساء مختلفات الألوان، بيضاء وسمراء وقمحية، عشنَ معاً كأنهنّ أخوات.

المساهمون