إعلان جين فوندا (1937) إصابتها بسرطان الغدد اللمفاوية (2 سبتمبر/أيلول 2022)، مؤكِّدةً إمكانية الشفاء منه، لحظةٌ جديدة تُضاف إلى سيرة كفاح الممثلة والناشطة الأميركية، دفاعاً عن مسائل أساسية في حياة أفرادٍ وجماعة. امرأة صلبة، تُريد قولاً مباشراً يمسّ جوهر الحياة والعيش، فتُحوِّل إصابتَها بنوعٍ سرطانيّ قابل للعلاج إلى موقفٍ أخلاقي (ربما يرى البعض فيه تباهياً وادّعاءً، وهذا نفسه قابلٌ للنقاش أيضاً)، مُرتبطٍ بالسياسة والنظام الصحّي الأميركيَّين، في عمرٍ مُتقدِّم لها (في 21 ديسمبر/كانون الأول 2022، ستبلغ 85 عاماً).
استعادة سيرتها، غداة إعلانها إصابتها بالمرض السرطاني، تُذكِّر بامتلاء الجانب الحياتي بنشاطات منبثقةٍ من موقف أخلاقي وثقافي وفكري، يدفع إلى مواجهة تحدّيات عصرٍ وعيشٍ واجتماع، في بلدٍ مبنيّ، أصلاً، على طرد جماعي لسكّانه الأصليين، ومحاولة حثيثة لإبادتهم (لها موقفٌ ودفاع إزاء وضع كارثيّ للهنود الحمر). منذ ستينيات القرن الـ20، الفترة الأكثر ثراءً بتبدّلات جوهرية وعميقة في مفاهيم اجتماعية وتربوية وسياسية في العالم، تخوض جين فوندا حرباً ضد إدارة سياسية وقيادة عسكرية أميركيتين، بسبب حرب فيتنام أساساً، و"أكاذيب" متعلّقة بها، تُطلقها هاتين الإدارة والقيادة، لتغطية فضائح جمّة لها، وخسائر فادحة للأميركيين.
الإعلان يترافق مع انتقادٍ توجّهه إلى مسؤولي نظامٍ صحّي ـ اجتماعي ـ سياسي، ينفضّ عن وضع خططٍ تُفيد الجميع من دون استثناء: "حظّي جيّد للغاية، لأنّ لديّ تأميناً صحّياً. عائلات كثيرة في أميركا غير متمكّنةٍ من الحصول على رعاية صحّية جيّدة مثلي. هذا غير عادل". تعليقٌ على قولها هذا (إنستغرام) يذكُر أنّ فوندا، منذ 50 عاماً، "تستخدم شهرتها للتنديد بعدم المساواة الاجتماعية" (فرانس أنفو، 4 سبتمبر/أيلول 2022).
هذا يُحيل إلى "مريض (Sicko)"، المُنجَز الوثائقي (2007) للأميركي مايكل مور. رغم ميلٍ نقديّ إلى اعتباره شعبوياً، لانغماسٍ متطرّف في مقارعة سلطة أميركية يُعاديها، يساهم مور في كشف "فضيحة الديمقراطية" الأميركية، بتفكيك شيءٍ من أسطورتها، عبر الغوص في أحوال اجتماعية، مفتوحة على تفاصيل وحالات ومسائل عدّة، تقول إنّ هناك "عفناً كثيراً" في الولايات المتحدة الأميركية، إدارةً وقيادةً وأنظمةَ صحّة واجتماع وتعليم.
هذا غير شاملٍ، فسؤال الديمقراطية الأميركية يحتاج إلى نقاشٍ أكبر وأعمق، والجانب المُشعّ في ذاك البلد، علماً واختراعات وتفكيراً وفنوناً واشتغالات مختلفة، لن يُحْجَب، كما أنّه لن يحجِب خراباً واهتراءً يعتملان في روح أميركا وجسدها. أهمّ الانتقادات السجالية لأميركا، وأصدقها وأعمقها وأكثر حيوية وحثّاً على التنبّه والنقاش، يصنعها أميركيون، كجين فوندا.
مايكل مور، السينمائي التوّاق (من دون جدوى) إلى تأكيد جمالية "التمرّد والمشاغبة والاستفزاز" في اشتغالاته، "تيمّناً" بأوليفر ستون، أكثر السينمائيين الأميركيين انتقاداً بديعاً لأميركا، وأجملهم وأعمقهم وأكثرهم إبداعاً؛ يكشف (مور) في وثائقيّه هذا ـ المعروض للمرّة الأولى دولياً في الدورة الـ60 (16 ـ 27 مايو/أيار 2007) لمهرجان "كانّ" السينمائي (خارج المسابقة) ـ انهيار النظام الصحّي في بلده، مقارناً إياه مع أحوال النظام نفسه في دول أخرى، ككندا وفرنسا وكوبا. ما تقوله جين فوندا غير مختلفٍ عن "مريض"، رغم أنّها، لحظة إعلانها مرضها وانتقادها، غير معنيّة بكشف مستورٍ أميركي، كما يفعل مور، مع أنّها ملتزمةٌ أحوال بلدها وناسه، لاعتباراتٍ تُشكِّل وعياً معرفياً لها في مواجهة هذين الخراب والاهتراء.
قراءة نشاطاتها غير السينمائية، وبعض أفلامها يُترجِم شيئاً (على الأقلّ) من نشاطاتها النضالية، تقول (القراءة) إنّ مفاصل حياتها مُشبعةٌ بعنادٍ، يدفعها إلى اهتمامٍ بمسائل تمسّ أناساً وحقوقهم وحاجاتهم الطبيعية، بإصرارٍ على فضحٍ أو كشفٍ يُصيبان وضعاً موبوءاً، تتستّر عليه أنظمة متحكّمة بالحياة اليومية الأميركية. ستينيات القرن الـ20 دافعٌ أساسيّ إلى خوض معارك حياة وهوية وموقف وتغيير وتحدّ، فالعالم حينها مرتبكٌ، يبحث عن توجّهات تغييرية في مساراته وأحواله، وأناسٌ كثيرون يجهدون في إحداثِ فرقٍ كبيرٍ بين ماضٍ يُفترض به أنْ ينتهي، وحاضرٍ يجب أنْ يتبدّل، ومستقبلٍ يُصنع خارج التوافقات السياسية، المشبعة بمصالح اقتصادية وتجارية، وبمواجهات أمنية واستخباراتية وعسكرية (وإنْ يصعب تحقيق هذا كلّه). ستينيات القرن الـ20 تبقى لحظة تاريخية في مقارعة ظلمٍ، وإعلان رغبة جامحة في تحرّر، فردي وجماعي، ينفلش في شؤون الحياة ومسالك الناس.
جين فوندا، بميلٍ متأصِّل فيها، تبدأ رحلة مواجهات منذ تلك اللحظة، من حرب فيتنام إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي (وفيه تحاول إيجاد توازن بين الجانبين، رغم انتباهها إلى الوضع الفلسطيني ومحاولة تثبيت التوازن بشيء من العقلانيّة، وهذا قابلٌ لنقاشٍ أوسع)، مروراً بحقوق السود (لها موقف دفاعي عن هيو بي. نيوتن، زعيم "الفهود السود") والمرأة، وأحوال البيئة والتغير المناخي
مُجدّداً، تؤكّد جين فوندا أنّ معاركها مستمرّةٌ، ومواجهاتها قائمةٌ، وإصرارَها على مقارعة ظلمٍ وخبثٍ عنيدٌ. بعد أسابيع، تُنهي عامها الـ85. نصف قرن من عمرها يشهد متانةً في قناعاتها، وصلابةً في مواقفها. أجهزة أمنية أميركية مختلفة تُطاردها وتُراقبها وتحاول إرهابها. هذا غير مُفيدٌ معها. السرطان مُنهزمٌ، كما تقول. العفن الأميركي خطر، وأمثالها حاضرون لمواجهته.
إنّها أميركا، النابضة بحيوية وحماسةٍ لإنتاج الأجمل والأفضل في مجالاتٍ عدّة، والغارقة في مهانةٍ وقهر واهتراءٍ أيضاً.