"حديد، نحاس، بطاريّات": مصارحة الذات اللبنانية

23 ديسمبر 2022
أحمد (زياد جلّاد) ومهديّة (كلارا كوتوري): حبّ في جحيم لبنان (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

باختياره الحرّ، يحاصر المخرج اللبناني وسام شرف معرفته بالموضوعات الإشكالية، التي تلازم القصّة الرومانسية لفيلمه. حبّ يجمع بين لاجئ سوري وعاملة منزلية إثيوبية في لبنان، لحظة انهياره المحتمل. محاولة لجمها مردّها خشية من أنْ تأتي على حساب الجمال السينمائي، المُراد له أخذ أكبر مساحة ممكنة في نصّه السينمائي، "حديد، نحاس، بطاريّات" (2022). هذا حاصل ومتقارب مع تصريحات صحافية له في هذا المعنى. الحاصل أيضاً أنّ متن نصّه السينمائي لا تفارقه أبداً هواجس البحث في حال لبنان، في ذروة اللحظة الآنية، الكاشفة مآزق أخلاقية وسياسية، وتشوّهات بنيوية بشعة. عنوان الفيلم بالعربية يشي بها ضمناً، وعنوانه الإنكليزي مختلف تماماً: Dirty, Difficult, Dangerous (قذر، صعب، خطر).

"حديد، نحاس، بطاريّات" نداء يُردّده اللاجئ السوري أحمد (زياد جلّاد)، وهو يجول في شوارع بيروت. بصوتٍ عالٍ ورتيب، يريد إسماعه لسكّان بيوتها الراغبين في التخلّص من بقايا أشياء قديمة لم تعد تنفعهم. وجوده في المشهد اللبناني طارئ. جاء السوري في وقتٍ أضحى البلد كلّه قطعة "سكراب"، لا نفع منها. لم يعد لبنان مكاناً يرغب المرء في العيش فيه. لهذا، كان حبّه لمهديّة، العاملة المنزلية الإثيوبية (كلارا كوتوري)، مُهدَّداً مثل جسده، الذي أخذت المعادن تتوغّل في خلاياه، وتكاد تُحوّل أجزاء منه إلى معدن صلب، يشبه ذاك الذي يجمعه ويبيعه ليعيش منه على هامش حياة لبنانية مُذلّة.

وجود أحمد السوري ومهدية الإثيوبية في المشهد اللبناني يستقدم أسئلة الهجرة، والتناقضات الوجودية الناشئة من علاقتهما بالوسط الاجتماعي الذي يعيشان فيه. وجودهما المرفوض يضع لبنان المأزوم أمام مرآة ذاته، خائفاً من مواجهة نفسه في أشدّ اللحظات حاجة إلى المصارحة والاعتراف بكونه كياناً هجيناً وهشّاً، وعاجزاً عن قبول الآخر، القريب منه قبل البعيد عنه. وسام شرف، في روائيّه هذا -الفائز بجائزة أفضل فيلم أوروبي في مسابقة "جورناتي دل أوتوري" الموازية، في الدورة الـ79 (31 أغسطس/ آب ـ 10 سبتمبر/ أيلول 2022) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"- يستدعي اللبناني طالباً منه الجلوس على مقعد صالة سينما ليرى نفسه على شاشة كبيرة، عبر قصّة حبّ أحمد ومهدية في زمن خراب بلده، العاجز عن قبولهما، والمُهدِّد لوجودهما إلى درجةٍ يغدو الهروب منه خلاصاً نهائياً لعذابهما فيه. دعوة شرف إلى المكاشفة والمصارحة لا تأتي عبر عرض الواقع كما هو، بكلّ فجاجته وقبحه.

هناك وسيلة أخرى يملكها، قادرة على عرض مشهد واسع منه، إذا أحسن توظيفها. يُصدّق صانعه حين يدّعي ميله إلى الجمالي في صنعته. كلّ ما في فيلمه مُسخَّر لتحقيق تلك الغاية. النصّ المكتوب لا زوائد فيه (سيناريو شرف وهالا دبجي ومارييت ديزير)، منفتح وقابل لإضافة مساحات من الكوميديا المُرّة إليه، كما يقبل الفانتازيا تتسرّب إلى جوانب من سرده البصري.

 

 

يذهب إلى تخوم الواقعية، ويظلّ مُنتبهاً إلى مخاطر الوقوع في هوّتها. يقارب أسئلة الهجرة، بمعرفته الدقيقة لتفاصيلها. يُمرّر كلّ ذلك الخليط عبر قصص جانبية، تتداخل مع قصّة الحب العجيبة في زمن قاسٍ لا يتحمّلها. العمالة الأجنبية يدخل إليها من طرف مهديّة، العاملة في منزل الكولونيل المتقاعد إبراهيم (رفعت طربيه)، المُغيّب عن واقعه بسبب الخَرَف الذي يعانيه، ويدفعه أحياناً إلى التهجّم عليها، متوهّماً فيها عدواً يريد التخلص منه. زوجته ليلى (دارينا الجندي) تحتار بين الاحتفاظ بوجود مهديّة، العاملة المطيعة، وعدم طاقتها على تحمّل معانداتها. العنصرية غير الواعية، والتفوّق الوهمي على الغير، يتسرّبان من ثنايا سلوكها ومعاملتها لها. الجميع لاجئون، وأبناء البلد ينظرون إلى الأنثى والأفريقية الشابّة كفريسة وهدف جنسي سهل، عاجز عن المقاومة.

تفاصيل دقيقة تلامس حال العاملات المنزليات. تتقارب هذه التفاصيل ودقّة تناولها مع "مخدومين" (2016)، الوثائقي المهمّ للّبناني ماهر أبي سمرا، وشرف يُضيف إليها رؤيته العميقة لحالة اللاجئ السوري في العاصمة والمناطق البعيدة عنها، حيث الملامسة الجغرافية بين سورية ولبنان تقدّم أنماطاً مستحدثة من أشكال الاستغلال البشع لحاجة الغريب إلى البقاء حيّاً، أو الهروب من الواقع المؤلم الذي يعيش فيه.

الزمن، في "حديد، نحاس، بطاريّات"، مدهش في تطويعه واستيعابه قوساً واسعة من الواقع اللبناني، المنقول سينمائياً بلغة باهرة في جمالها وحلاوة طرحها أسئلةً، لا تدّعي قدرةَ الإجابة عنها، بل تتعمّد إضفاء غموضٍ مُحبّب عليها، يُبرّر أحياناً، بالفانتازيا، تَقبّل فكرة تحوّل إحدى ذراعي أحمد إلى حديد بالكامل، تسقط منه على الطريق التي تقوده مع حبيبته إلى مرفأ، لا نعرف هل سيُبحران منه إلى عالم آخر أحسن من ذاك الذي عرفاه في بلدٍ يقدّم نفسه جميلاً، بينما القبح والقساوة يستوطنان دواخله، ويُحيلان عيش الغريب فيه إلى جحيمٍ لا يقلّ فظاعة عن الجحيم الذي يعيشه اللبناني نفسه، الملتبس عليه واقعه، والمتناقض مع الصورة الراغب في تقديم نفسه عبرها إلى العالم.

بيد أنّ السينما لا تكفّ عن معاندة تلك الصورة، ورفض التورّط في مجاراتها. إذ إنّ هناك دائماً سينما تنشد عرض صورة مختلفة صادقة، كالتي يقدّمها وسام شرف بمعرفة عميقة، لكثرة ما عنده منها، محاولاً وضعها في مرتبة أدنى من مرتبة الجمال الطافح به فيلمه، والمتسرّب الكثير منه إلى أداء ممثليه وفريق عمله، الذي أنجز عملاً سينمائياً يعاكس قليلاً ما قاله النفّري يوماً: "كلّما اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة". فرؤية صانعه متّسعة، ولأنّه سينمائيّ موهوب، يعرف أنّ لغة صنعته تختلف عن بقية اللغات، بصُوَرها الجميلة مُحكمة التكوين، وأنّه يمكنه قول الكثير والكثير عن بلدٍ، يشهد لحظة انهياره.

المساهمون