"أنت رهن الاعتقال أيها الشاب، لقد تماديت بعيداً جداً". هكذا خاطب الكابتن كيلي، جيم موريسون (Jim Morrison)؛ مُغنّي فرقة The Doors الأسطورية، ابن السادسة والعشرين عاماً حينئذ، بعد أن روى لجمهوره، أثناء حفل للفرقة أقيم في مدينة نيو هيفن في ولاية كونيتيكت الأميركية سنة 1969، كيف أنه كان قد تعرض للتو إلى اعتداء من قبل شرطي، بعد أن عُثرِ عليه مع فتاة في الحمام.
يروي القصة ري مانزارك (Ray Manzarek)، عازف الأورغ، وأحد الأفراد المؤسسين للفرقة. يبدو أن الشرطي، عند اقتحامه الحمام، لم يُدرِك أن من كان فيه، هو من كُلِّف أصلاً بحمايته؛ فنثر في وجهه بهاراً مسيلاً للدموع، ثم اعتذر من النجم الشاب، بعد أن تعرّف إليه.
على طريقته ومن نواحٍ ثلاث، استغل موريسون الحادثة. فنياً، بمصاحبة نبض إيقاعي منتظم لانسجامات موسيقية واطئة، عزفها مانزارك من على آلة الكيبورد، أخذ يروي القصة على الجمهور، كفقرةٍ من فقرات الحفل.
ناحية أخرى، هي العدالة الاجتماعية، استخلص منها لجمهوره عبرةً في انعدام المساواة. مفادها أنك لو كنت صبياً تمارس الحب في الحمام، سيجري توبيخك والاعتداء عليك من قبل السلطات، أما إذا كنت نجماً شهيراً، فإن اقتحام خلوتك، يستوجب السلطات توسّلها للاعتذار منك.
ثمة أيضاً الناحية المسرحية، أو الأدائية بالمعنى المفاهيمي للفن. ها هو يستبق اعتلاء عناصر الأمن خشبة المسرح، بإصدار إيماءات تمثيلية، كمن يتعجب ويستنكر، بأسلوب لاعنفي، وشكل استعراضي ساخر. بذلك، يُمسرح موريسون الوضع الطارئ، يخلق مشهدية، فيكسب بذلك تعاطف الجمهور، وتأييده. بهذا، يظهر كما لو أنه يخوض معركة رمزية ضد النظام القائم، وأركانه، ألا وهي الشرطة، بزيّها الرسمي.
استغلالٌ موسيقي نشاطويّ فنّي انتهى بـ جيم موريسون أخيراً في السجن، وذلك قبيل رحيله بثلاثة أعوام، التي صادف ذكراها السابع من يوليو/تموز. بالنسبة إليه، كان التمادي والذهاب بعيداً في المنهج والمسلك، بمثابة موقف سياسي. قد قال ذات مرة: "أنا مهتم بكل ما يتعلّق بالعصيان، بانعدام النظام، وبالفوضى، خصوصاً تلك الأنشطة التي تظهر عديمة المعنى؛ إذ تبدو لي بأنها الطريق نحو الحرية".
غاب وجه موريسون السياسي خلف وسامته الفتيّة وطلّته الفنية، اللتين جعلتا منه رمزاً للجاذبية الجنسية في عقدي الستّينيات والسبعينيات، حين رُفِع لمرتبة نصف - إله. بالنسبة إلى الجماهير، ارتبطت القصص والأخبار المتداولة عنه بالحسناوات والمكيّفات، من كحول ومخدرات. قد مثّل موريسون جيل ما بعد ثورة الشباب في مايو/أيار عام 1968 أصدق تمثيل، لاعتباره الأناركية (Anarchism)، أي العقيدة السياسية التي تقوم على مناهضة النظام العام ومعاداة سلطة الدولة، السبيل الحقيقي إلى مجتمع متحرر، مسالم ومنسجم.
عند وضعه في سياقه التاريخي، يظهر جيل موريسون بوصفه جيلَ عبورٍ حقبوي في أوروبا والولايات المتحدة على وجه الخصوص. قد أنذرت الحرب العالمية الثانية بنهاية الحقبة الصناعية، ومعها بُناها الاجتماعية البرجوازية المُحافظة، بعد أن بلغت ذروتها عندما وصلت أحزاب اليمين الفاشي إلى حكم دول عدة، ثلاثينيات القرن الماضي، ثم آلت طرفاً خاسراً للحرب. إثر ذلك، أخذ جيل الستينيات، على عاتقه، تفكيك مُخلّفاتها من نخب بيروقراطية وتكنوقراطية، كانت قد استمرت، من خلف الستار، في تسيير السلطة والمجتمع والثقافة في الغرب.
لأجل تلك الغاية، اجتمعت من جهة، كل من قوى اليسار العالمي والسلام العالمي، من خلال الحركة اللاعنفية (Pacifism) التي ضمّت كُتّاباً وفلاسفة، نادوا بنبذ الحرب واعتناق النضال السلمي وسيلةً من أجل التغيير السياسي. ومن جهة ثانية، قوى الفن الصاعد، الثائر والصاخب، المتمثل بموسيقى الروك، من مثيلات فرقة The Doors، إضافةً إلى الجماعات الروحانية، كالشامانية الجديدة، التي استلهمت طقوساً وثنية قديمة، تأمل بإقامة الاتصال بعوالم لا أرضية، وأرواح تسبح في الغيب، تحررت من الأجساد، تؤمن بقواها في الإصلاح والشفاء، وتلجأ إلى المُخدرات والمهلوسات بنيّة الإبحار في "رحلات" (Trips) في عباب النفس، تتقصى بها آفاق اللاشعور.
كأنما حياة موريسون، في المنهج والمسلك، وتلك الممارسات الهيدونية (اللذّوية) المُهلِكة للجسد، قد أتت عليه بثمارٍ عقلية؛ إذ ها هو في مقابلة تلفزيونية مع الإعلامي توني توماس (Tony Thomas) على شاشة CBC سنة 1970، أي قُبيل رحيله بعام، يتحلّى ببصيرة نافذة ورؤية بعيدة لمستقبل البشرية، فيتنبّأ بهيئة النضال السياسي الذي بات يسود اليوم، بعد خمسين عاماً.
يقول مغنّي The Doors: "إن الأفراد الذين بمقدورهم جمع الناس ورصّ صفوفهم ضمن بُقعة مكانية محددة، كما رأينا في مواسم المهرجانات الموسيقية الكبرى، خلال العامين، أو الثلاثة الماضية، سيكون لهم بالغ التأثير على الثقافة الجماهيرية". هؤلاء، يقول، "أصفهم بـ الموصلين (Connectors) وأمثالهم من المثقفين، أولئك من بين النشطاء السياسيين والعلماء والروّاد في مجال الكومبيوتر".
من المثير للعجب، والإعجاب، كيف لشاب أوّل سبعينيات القرن العشرين، أن يتنبّأ بما يبدو عليه العالم اليوم، أول العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين؛ إذ لم يكن الكمبيوتر في زمانه، قد بدأ في تسيير شؤون الناس على كل الصعد، ولم يكن الإنترنت بعد قد أصبح شريان الحياة على كوكب الأرض، ولا السوشال ميديا قدّمت إلى العالم من على منصّاتها العديدة أولئك الذين باتوا يُنعتون بـ "المؤثرين" (Influencers)، وما لهم على الرأي العام من وقع وسطوة، باتوا معها ينافسون في نفوذهم، رجال السياسة والدين.
إن ببصيرة الرائي، أم بسكرة المخمور، أم بكليهما معاً، استطاع الشاب الصغير في نيو هيفن إبداع الكثير، وبأسلوب ارتجالي لا يتوفر إلا لذوي الفطنة والفطرة والموهبة. كان مثالاً على النجم حين يُطلّ من على خشبة المسرح، فيتقد ليتألق بصبوة الجموع، فتهبه القوة. قوةٌ، استعان بها جيم موريسون على جني المال وعيش حياة بلا عقال، سعى إلى ترجمتها لغةً فنية وموقفاً سياسياً. إلا أن نار الصبوة أتت عليه. قساوة الواقع، واستحالة تغييره أفقدته الأمل؛ ليُعثر عليه، في الثالث من يوليو/تموز عام 1971، في بانيو في شقة باريسية، وقد فارق الحياة، عن 27 عاماً، بسبب جرعة زائدة.