جيل جديد في السينما الإيرانية: تمرّد على الآباء باشتغالات عادية

07 مارس 2022
"لا مجبورون" لرضا دورميشيان: مُشرّدون في مهبّ الريح (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

يبدأ الفيلم بداية حسنة. على طرقات ساحرة في إيران، تجول سيارة دفع رباعي، يقودها شاب عابسٌ، سيظلّ عابساً معظم الوقت. إلى جانبه أمٌّ تردّ على ثرثرةٍ لا تتوقف لابن آخر صغير، يجلس في المقعد الخلفي، رفقة أب مُجبَّر الساق. المكان تقرّر: داخلياً سيارة، وخارجياً طريق صحراوية خالية. تحدّد الأبطال: عائلة مؤلّفة من 4 أشخاص. النوع واضح: سينما طريق، وتعثُّر مشوار.

"انطلق للطريق" ("جاده خاكي" بالفارسية)، أول فيلم (2021) للإيراني الشاب باناه بناهي (1984)، يُصوّب على أهداف يشقّ الوصول إليها. "فيلم الطريق" ليس سهلاً. ليس مجرّد قيادة سيارة على طريق صحراوية، مهما بلغ جمالها وسحرها، لن تحيد النظر عن الحكاية. الإمساك بعناصر القصّ، في فيلمٍ كهذا، ليس يسيراً، ولا يقتصر على عبارة من هنا وموقف مفتعل من هناك، وعلى اصطناع أجواء توتّر، مع إلحاق عناصر خارجية لإغناء الحدث. هذه كلّها لا تفلح في إضفاء بناء درامي صلب ومُقنع.

باناه بناهي، ابن المخرج جعفر بناهي، منتمٍ إلى جيل الأبناء في السينما الإيرانية: هل سيتحرّر من جيل الآباء؟ هو أيضاً اختار السيارة، كما فعل والده في "تاكسي" (2015) و"ثلاثة وجوه" (2018). مع هذا، لا يرتبط "انطلق للطريق" بما قدّمه بناهي الأب. هناك ثرثرة أقلّ، ومناظر خارجية أكثر، وأسلوب إخراجي يحاول التميّز عبر لغة سينمائية بصرية وحكائية، تعتمد المكان والصمت. رغم هذا، يفتقد السلاسة والحبكة المتينة، اللتين عُرفت بهما أفلام الأب. لكنْ، لمَ المقارنة أصلاً؟ تجنّب ذلك صعب، فبمجرّد معرفة أنّه فيلم لابن جعفر بناهي، سيُثار فضولٌ فوري، يُحفّز أكثر على المُشاهدة، وهذا عامل، وإنْ كان ظالماً، لصالح الفيلم.

يكشف "انطلق للطريق"، تدريجياً، غرض الرحلة، وهذه ليست تقليدية لأسرة من الطبقة الوسطى، رسم المخرج شخصياتها خارج المألوف. أسرة باعت ما لديها، يُفهم لاحقاً أنّ ذلك يهدف إلى السماح للابن الشاب بمغادرة بلد، سُدّت الآفاق فيه. توصله إلى المكان المتّفق عليه للتسلّل خارجاً. في الطريق، تبرز خلافات وقضايا خاصة بالأسرة، في مَشاهد تراوح بين ثرثرة وقتية مُكثّفة، وصمت يمنح للمُشاهد فرصة التخيّل. تُفتَعل مواقف للخروج من حبس المكان، ومحدودية شخصياته، كأن تتوقف السيارة في مكان جميل، أو تُقحَم شخصية جديدة لتحريك السيناريو الراكد. عناصر مُقدّمة ومُستهلكة سابقاً، في سينما هذا النوع، والاستعانة بها مجدّداً لم يُضف أبعاداً متميزة، أو انفتاحاً على رؤية مبتكرة.

لكنْ، سيكون ظلماً عدم الاشارة إلى جمال بعض المشاهد، بل إلى شيءٍ من سحر، كمشهد تجمّع عائلات في مكان صحراوي مُتّفق عليه للقاء المُهرّبين، وهذه استعارة فلكية أجاد باناه بناهي استخدامها لحدثٍ أرضي، متمثّل بتمضية العائلة ليلةً تحت النجوم. مشاكل الأبناء تبدو كأنّها أهمّ من مشاكل آبائهم. تركيبة الشخصيات تشجّع على استنتاج كهذا، لا سيما الأبّ، الذي يبدو أقل جدّية وتقديراً لخطورة الوضع من الابن. الفيلم مُتحرّر من نظرة الآباء إلى السينما الإيرانية. هذا يبدو في الاعتماد المتكرّر على الموسيقى. ساعةٌ بعد بداية الفيلم (133 دقيقة)، من دون حوار يُعتَمد عليه، أو موقف مُشوّق، تكون الموسيقى عاملاً خارجياً مُساعداً على تحريك مشاعر، لم ينجح الحدث أو الشخصية في تحريكها. مع أغانٍ بأصواتٍ نسائية، في لقطاتٍ مُعينة، تحلّ لحظات فجائية من المتعة والحنين والحب.

 

 

التفاعل العاطفي يتحسّن في الدقائق الأخيرة: الأم تذيب القلوب وهي تركض صائحةً في الذين يصطحبون ابنها إلى المجهول: "إلى أين تأخذون ولدي؟". ثم المشهد الأخير، مع كاميرا تنسحب على أرض يباس، شقّقها الجفاف، في دلالة قوية وإنْ مألوفة، على أنْ لا علاج لهذا الألم، لا في الوطن ولا في المنفى ربما، مع أغاني الحنين التي تُبثّ.

إليه، هناك "لا مجبورون" لرضا دورميشيان (1981)، والفيلمان مُشاركان في الدورة الـ28 (1 ـ 8 فبراير/شباط 2022) لـ"مهرجان فزول الدولي لسينمات آسيا" (فرنسا). مخرج الثاني ("لا خيار" بحسب العنوان الإنكليزي. جائزة الجمهور) منتمٍ إلى جيل الشباب أيضاً. الجيل الجديد السادس في السينما الإيرانية، يقود ثورته الخاصّة سينمائياً، في جرأة أكبر على البوح. فكرة الفيلم الثالث لدورميشيان مأخوذة من مناقشة البرلمان الإيراني مشروع "النائمون في صناديق الكرتون"، الذي (المشروع) لفت انتباهه، فتوجّه إلى جنوب طهران، حيث معظم المُشرّدين، الذين باتوا اليوم في كلّ مكان، وبلغ عددهم أكثر من 3 ملايين، كما قال المخرج في حوار مع جمهور "فزول". الفيلم لم يُعرض بعد في إيران، وعليه مواجهة الرقابة.

سيناريو الفيلم غنيّ: 3 شخصيات من خلفيات اجتماعية مختلفة، مُتشرّدة وطبيبة نسائية ومحامية في مجال حقوق الإنسان. الأولى مُبرّر للانتقال إلى الشخصيتين الأخريين. تبلغ جُلْبِهار 16 عاماً، وتعتمد ـ منذ صباها الباكر ـ الحمل والولادة وبيع الطفل كوسيلة عيش. شاب قوّاد يستغلّها ويتلاعب بعواطفها. يبيعها إلى رجل في منتصف العمر، لتنجب منه طفلاً. بعد شهر، يتبيّن أنّها غير حامل، وعندما يُجبرها على إجراء فحوصات طبية، تفاجأ بما ما لم يكن في الحسبان. يسير "لا مجبورون" في متاهة تحقيقات مطوّلة، بطلتها المحامية في مواجهة الطبيبة النسائية، لإثبات أنّ عملية أجريت للفتاة عند دخولها المستشفى بسبب حادثٍ تعرّضت له. فهل هذه خطّة وطنية غير رسمية في إيران، للسيطرة على العدد المتزايد للمُشرّدين؟

يطرح الفيلم وجهتي نظر تختلف إحداهما عن الأخرى: المحامية المستنكرة، والطبيبة التي ترى المشاكل من زوايا مختلفة. كحال الأفلام السابقة لرضا دورميشيان، يُترك الأمر للمُشاهد، لتقرير من على حق. لكنّ جديده هذا يتعثّر في السرد، بسبب كثرة التفاصيل، والتحقيقات التي لم تصنع تشويقاً. النتيجة مُتوقّعة، لكنّ بلوغها يدور في متاهات. إلى الحوارات الطويلة، اعتمد الأداء على نظرات بطلتيه، بأسلوبٍ يقترب من التصنّع. لكنّ الأهمّ أنّ الفيلم لا يثير مشاعر من أي نوع، ويبقى التلقّي بارداً، رغم أهمية الموضوع. عيبُه الرئيسي أنّه لا يُثير تعاطفاً مع المتشرّدة، ولا يقف إلى جانب المحامية (أداء غير مقنع للممثلة المعروفة نكار جواهريان)، ولا يستنكر موقف الطبيبة (فاطمة معتمدي آريا)، التي تعتقد أنّ فعل هذا واجبٌ لحماية الصغيرات والمجتمع، كما تقول.

المساهمون