جون مايال... ما قاله موسيقي البلوز ذات مرّة

28 يوليو 2024
جون مايال (يميناً) برفقة أعضاء فريقه The Bluesbreakers (إيفان كيمان / Getty)
+ الخط -

إن ذُكر اسم البريطاني إيريك كليبتون أمام عُشّاق موسيقى البلوز من جيل الثمانينيات والتسعينيات، فستخطر على بال معظمهم على الفور أغنيته الأيقونية الشهيرة Tears in Heaven التي راجت مطلع التسعينيات. أما كليبتون فلعلّه لم يكن ليعرف بصفته عازف غيتار ومغنّي بلوز ذائع الصيت من إنكلترا، لولا أبوه الروحي ورائد البلوز الأول في بريطانيا جون مايال (John Mayall) الذي رحل الاثنين (22 يوليو/تموز) في بيته بمدينة كاليفورنيا الأميركية عن عمر 90 عاماً.

نعى كليبتون جون مايال من خلال مقطع فيديو مؤثّر سجّله من منزله، واصفاً إياه بصديقه جون، شاكراً له على "إنقاذه من المجهول"، إذ يروي أنه عندما كان لا يزال شاباً في عمر الثامنة عشرة وعلى وشك الاعتزال، عثر مايال عليه وأخذه إلى بيته ثم طلب منه أن ينضم إلى فرقته، التي منها تعلّم كليبتون كل ما احتاجه في حياته، من تقنيّة فنيّة ومن عزيمة نفسية لكي ينهض من جديد، ويمضي قدماً على درب المسيرة المهنية.

بحسب كليبتون، فإن مايال كان قد قال له ذات مرة إن لا شيء في حياة الفنان يفوق أهميّةً أن يعزف الموسيقى التي يعشق، من دون أن يولي اهتماماً لما يود الآخرون سماعه، وإن الأجدى هو أن ينصت الفنان إلى نفسه وأن يكتشف دافعه الذاتي إلى المزيد من الدأب والاجتهاد. هكذا، بات مايال مُعلّماً لكليبتون وراعياً لموهبته، فمدّه بفرص اكتساب الخبرة والممارسة، علاوةً على حضّه على إبداء الشجاعة إزاء التعبير بحماسة عن شخصيّته الفنيّة، بلا خوف ومن دون حدود. 

انطلاقاً من الاستماع إلى شهادة موسيقي بريطاني قدير من عيار كليبتون، يمكن اعتبار جون مايال ليس الأب الروحي لإريك كليبتون ونخبة من شباب جيله وحسب، بل لموسيقى البلوز بنسختها الأوروبية الشمالية التي نشأت وتطورت في بريطانيا. قد أتى كل ذلك حصيلةً لسنين طويلة من البحث والتقصّي أمضاها منذ أن كان مراهقاً يعيش في كوخ على غصن شجرة بجوار بيت أسرته الصغير والمتواضع، حيث أمضى جلّ وقته في الاستماع إلى مجموعة أسطوانات والده والتعرف على تاريخ موسيقى البلوز الأميركية السوداء من خلال آثار أعلامها الكبار. 

من أهم ما وفّره المشهد الموسيقي الحيوي شرقَ الأطلسي، الذي تكوّن بفضلٍ من جون مايال وكليبتون وأمثالهما، هو تحرير موسيقى البلوز والجاز من غلال الفصل المجتمعي الذي ظلت ترزح تحته في الولايات المتحدة الأميركية حينذاك. ذلك بحكم منبتها الأفروأميركي، في بلد بقي يخضع حتى أواخر الستينيات إلى قوانين وأعراف قضت بعزل الإثنيات العرقية بعضها عن بعض بصورة تعسّفية، على الأخص تلك السوداء منها والبيضاء. 

لم يُسمح سوى لسود البشرة من الأميركيين بالعزف أو الاستماع إلى الموسيقى الأفروأميركية، من بلوز وجاز وآر أند بي، في الملاهي والمسارح المخصصة للسود وحدهم دون غيرهم. في المقابل، فقد أتيح لفنانين أوروبيين وسود أميركيين، أو من القارة الأفريقية، أن يُقدّموا لون البلوز على وجه الخصوص إلى جمهورٍ فتيٍّ عريض كان بدوره متنوع الأعراق والثقافات، الأمر الذي أدى إلى ولادة موسيقى بلوز جديدة هجينة، بلبوس أوروبيّ، هوية غربية، وأصول أفروأميركية، لعبت دوراً فيما بعد في انبثاق أجناس موسيقية جديدة خلال العقدين القادمين، مثل موسيقى الهارد روك والسول أو البوب. 

من رحم تلك البيئة الخلاقة الفتيّة والمنفتحة على التعدد، تكوّنت فرقة The Blues breakers التي أنشأها مايال سنة 1963 بوصفها أحد مُخرجات البلوز الأوروبي الذي ساهم في تأسيسه، فضمت أسماء لموسيقيين، منهم من صعد مستقلاً فيما بعد درجات الشهرة والنجومية، كعازف الغيتار مايك تيلور، الذي تألق بوصفه واحداً من أعضاء فريق رولينغ ستونز الشهير. 

كما كان لفريق مايال الجديد دور بارز في تقديم إريك كليبتون إلى أوساط المستمعين والنقاد، حين استضافوه في أول ألبوم لهم جرى تسجيله داخل استوديو سنة 1966 بعنوان "جون مايال وإريك كليبتون". كان ذلك في بداية مسيرته الفنية وقبل أن ينصرف صاحب Tears in Heaven إما إلى إحياء العروض الموسيقية منفرداً، أو إلى تأسيس فرقته الموسيقية الخاصة به تحت اسم ثلاثي Cream، التي اشتهرت منتصفَ الستينيات، والتسعينيات. 

حقق ألبوم مايال وThe Blues breakers برفقة كليبتون نجاحاً كبيراً وأصداء إيجابية بين أوساط النقاد. قد صُنف خلال كل من عاميّ 2003 و2012 من قبل مجلة رولينغ ستونز واحداً من بين الألبومات الـ500 الأكثر نجاحاً في كل العصور. كما يمكن اعتباره لناحية شخصيته الموسيقية استلهاماً مباشراً لقامتين من قامات البلوز الأفروأميركي، هما فريدي كينغ (Freddie King) وبدي غاي (Buddy Guy)، سواء من حيث أسلوبهم في الغناء أو لغتهم الموسيقية أو عزفهم على الغيتار الكهربائي، إذ إن الاثنين علمان بارزان، كانا قد لعبا دوراً مباشراً في رسم ملامح إريك كليبتون الموسيقية. 

يمكن النظر إلى الإصدار التاريخي، من خلال منظار اليوم، على أنه قد كان بمثابة إفساح للمجال وتهيئة للأجواء حققها مايال وفريقه الصاعد، من أجل تفتّح كمون كليبتون الإبداعي.

يبدو ذلك واضحاً في التراك المعنون Hideaway. فيه، يقوم مايال بمجرد العزف على الأورغن في الخلفية انسجامات البلوز التقليدية، فيما يرتجل كليبتون منفرداً على الغيتار الكهربائي لمدة تزيد عن ثلاث دقائق. خلالها، يمكن للأذن تكشّف خلطة لندنية شبابية، تجمع ما بين عزف البلوز والموسيقى المصاحبة لغناء الآر أند بي، تُزيل عن الإرث الأفروأميركي نكهة الحزن والشجن، تكتفي بالصخب، يُسمع أخفّ ثقلاً وأكثر إشراقاً.

المساهمون